التلوّث ليس صفة ملازِمة لكوكبنا ومجالِه الضيّق فحسب. فللفضاء المحيط بنا حصّته مما تقترفه يد الإنسان أيضاً. كان "سبوتنيك 1" السوفياتي أوّل الأقمار الصناعية التي أرسلناها إلى الفضاء عام 1957. وثمّة اليوم حوالى 9000 قمر صناعي نشط في مدارات مختلفة حول الأرض. لكن حيث أنّ الأنظمة البيئية البشرية تتفاعل وتتكامل داخل الغلاف الجوي للكوكب وخارجه، ما قصّة فوضى الحطام الفضائي الناجِم – وماذا ينتظرنا؟
لطالما كان السباق إلى الفضاء حكراً على الدول والحكومات. لكن دخول الشركات الخاصة حديثاً على الخط، جعل السباق محموماً للغاية، وتبعاته خطيرة للغاية هي الأخرى. فقد بلغ عدد الأجسام التي أُطلقت في الفضاء حتى الآن 16466 جسماً، وفقاً لتصنيف مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي. أمّا الغالبية العظمى ممّا لا يزال نشطاً منها (ما يزيد عن 11742 جسماً)، فعبارة عن أقمار صناعية يُتوقَّع أن يرتفع عددها إلى 75000 بحلول عام 2030. والأخيرة تلعب أدواراً تقنية بحتة كتنبّؤ الأحوال الجويّة، إطلاق الإنذارات حيال الكوارث الطبيعية، المراقبة العلمية والعسكرية للأرض ومحيطها، وإدامة خدمات الاتصالات وأنظمة الملاحة كنظام التموضع العالمي (GPS).
حتى عام 2019، بقي تلوُّث الأقمار الصناعية محدوداً نسبياً، إذ لم يتخطَّ عدد النشطة منها الـ2000. لكن اندفاعة القطاع الخاص في السنوات الأخيرة أدخلت على المعادلة تغييراً جذرياً. فشركات مثل SpaceX، و Blue Origin وVirgin Galactic راحت تعتمد في عمليّاتها على إطلاق الأقمار الصناعية صغيرة الحجم في مدارات منخفضة لا يتخطى ارتفاعها 1000 كيلومتر. نأخذ، مثلاً، أقمار ستارلينك الصناعية التابعة لشركة SpaceX: في شهر تشرين الثاني الماضي، بلغ حجم "أسطول" الشركة منها أكثر من 5000، موزَّعة على ارتفاع 500 كيلومتر حول الكوكب، وقد تصل، بحسب التطلّعات، إلى 42000 قمر مستقبَلاً.
ووفقاً لوكالة الفضاء الأوروبية، في 2016، كان هناك مئات ملايين الشظايا الصناعية التي يتراوح حجمها بين ملليمترٍ واحدٍ وأكثر من 10 سنتيمترات وتدور حول الأرض. في حين تشير أحدث التقديرات، التي تلحظ دخول القطاع الخاص حلبة المنافسة، إلى وجود أكثر من 130 مليون قطعة من الحطام الفضائي التي لا يتجاوز عدد ما يكبر منها حجماً عن 10 سنتمترات الـ35000 قطعة. وبدأت الحوادث تتكرّر: فخلال العامَين المنصرمَين، كاد قمر صناعي صيني أن يصطدم بقطعة من حطام تجربة صاروخية روسية مضادة للأقمار الصناعية؛ كما أحدث حطام مماثل ثقباً بقطر خمسة ملليمترات في إحدى الأذرع الآلية في محطة الفضاء الدولية.
الأخطار المحدقة لم يَعُد بالإمكان تجاهلها. فقد فرضت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية في تشرين الأول الماضي غرامة (هي الأولى من نوعها) مرتبطة بالحطام الفضائي لشركة Dish Network. وغُرّمت الشركة مبلغ 150 ألف دولار بسبب عدم إخراجها القمر الصناعي EchoStar-7، المُرسَل إلى الفضاء عام 2002، من مداره بشكل صحيح، إذ فشلت الشركة في نقله إلى الارتفاع المتفَّق عليه في نهاية عمره التشغيلي.
مكمن خطورة الحطام الفضائي يتجلّى بقدرة قطعه على التحرّك بسرعة تبلغ 24000 كيلومتر في الساعة. والسرعة هذه تمنح حطاماً بحجم حبّة ملح طاقة تصادُمية شبيهة بشاحنة تتحرّك بسرعة تفوق 110 كيلومترات في الساعة، بحسب علماء من جامعة "وست فرجينيا". وهذا يكفي لإعطاب، أو حتى تدمير، قمرٍ صناعي أو مركبة فضائية، وإنتاج عشرات آلاف الشظايا التي لو تصادمت لعطّلت - في سيناريو كابوسي - النطاقات المدارية في ما يُعرف بـ"متلازمة كيسلر".
جدير بالذكر أنّ العلماء يتحدّثون عن احتمال وقوع تصادمٍ واحدٍ كل خمس سنوات راهناً، وقد نصل إلى تصادمٍ واحدٍ سنوياً بحلول عام 2100، وإلى خمسة تصادمات سنوياً عام 2200. وهكذا لا يعود مستغرَباً أن نسمع هولغر كراغ، رئيس مكتب الحطام الفضائي في وكالة الفضاء الأوروبية، يقول: "إنّ مواصلة البشر إرسال الأقمار الصناعية إلى الفضاء بالمعدّل الحالي وترْكها تخرج عن السيطرة في نهاية دورة حياتها قد يُفقدنا إمكانية الوصول إلى الفضاء لعقود، أو حتّى قرون مقبلة".
بإزاء هذه السيناريوهات، شرعت الدوائر العلمية تعجّ بالهواجس والأفكار والمبادرات. من إعادة استخدام الأقمار الصناعية وإعادة تدويرها في مداراتها عوضاً عن إرجاعها إلى الأرض؛ مروراً بتقصير أعمارها الافتراضية في مداراتها من 25 سنة إلى 5 سنوات؛ إلى اعتماد منصّات الليزر المدارية لإزالة الحطام. لكن الأهمّ، برأي العلماء، هو تعزيز "الوعي الفضائي" تفادياً لاختلالات ستطال مجالات، ليس أقلّها الخدمات المصرفية والاتصالات وأنظمة التعقّب والمراقبة.
وبالفعل، لجأ باحثون في جامعة "وست فرجينيا" مؤخّراً إلى تطوير آليّة اكتشاف وتحديد الحطام عالي السرعة وغير المتعقَّب سابقاً. إذ، وفق هؤلاء، فإنّ أقلّ من واحد بالمئة من الـ100 مليون جسم التي يفوق حجمها ملليمتراً واحداً يجري تعقّب دورانها حول الأرض حالياً. المبادرة – التي ستُنفَّذ في مركز فيزياء البلازما الحركية في الجامعة - تنقسم إلى مرحلتين تمتدّ كلّ منهما لمدّة عامين: الأولى تهدف للكشف عن الحطام وتوصيفه؛ والثانية تركّز على تطوير تقنيّات وخوارزميّات لتتبّع الحطام باستمرار.
لكن المبادرات لن تتّسم بالنجاعة الكاملة في غياب اقتصاد فضائي مستدام ودائري وتطبيق الشركات "الغازيَة" للفضاء لسياسة مسؤولية المنتِج الموسَّعة، كما يقول موريبا جاه، الأستاذ المشارِك في هندسة الطيران والميكانيكا الهندسية في جامعة تكساس. بيد أن ثمة عقبة كأداء هنا تتمثّل بِعدم رصْد التمويل المناسب لهكذا مجهود، نتيجة توهُّم الأمان بسبب ندرة حوادث التصادم – حتى الآن. والخوف، كما يضيف جاه، أن نكون متّجهين نحو ما يُسمّى بـ"تراجيديا المشاع"، ما لم يغيّر "الغزاة" سلوكهم المستنزِف مصلحياً للفضاء. أليس هذا، على أي حال، استنساخاً "فضائياً" لتراجيديا احترارٍ "أرضيّ" متعاظِم؟