دائماً ما كانت مصر ركيزة أساسية من ركائز النّظام الإقليمي. والخيارات التي تتبنّاها تترك انعكاساتها على الشرق الأوسط بكامله...

من المؤكّد أنّ الانتخابات الرئاسية المصرية، التي أجريت بين 10 كانون الأول و12 منه، انتهت بضمان الرّئيس عبد الفتّاح السيسي ولاية رئاسية ثالثة من ستّ سنوات. لكنّ هذه الولاية الجديدة سيصاحبها كمٌّ هائلٌ من التحدّيات الاقتصادية شبه المستعصية في الداخل، وتحوّلات إقليمية ضاغطة في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزّة، وتجدّد النزاع المسلّح في السودان وتمادي الفوضى الليبية.

دائماً ما كانت مصر ركيزة أساسية من ركائز النّظام الإقليمي. والخيارات التي تتبنّاها تترك انعكاساتها على الشرق الأوسط بكامله. وعلى أهمّية الموقع والدور، لا يمكن الاستهانة بثقل الأزمة الاقتصادية الحالية وكيفية تأثيرها على القرارات التي سيتّخذها السيسي من الآن فصاعداً.

ليس بخافٍ أنّ مصر البالغ عدد سكانها 105 ملايين نسمة تعيش أزمة اقتصادية حادّة: ندرة في الاحتياطات من العملات الصعبة، انعكست تدهوراً قياسياً في سعر العملة الوطنية، ليبلغ الدولار 49 جنيهاً في السوق السوداء و31 جنيهاً بحسب السّعر الرسمي، بينما التضخّم وفق آخر بيانات يتراوح بين 38 و40 في المئة. أضف إلى ذلك تراكم ديون خارجية بلغت 165 مليار دولار. وخدمة هذا الدين تصل إلى 42.26 مليار دولار مستحقّة في 2024، بينها 4.89 مليار دولار لصندوق النّقد الدولي.

ومع نموّ سكاني هو من بين الأعلى في العالم، وصلت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خطّ الفقر إلى حدود 60 في المئة، في وقت تكافح الحكومة للحصول على قرض جديد من صندوق النقد بقيمة ثلاثة مليارات دولار من الآن وحتّى الشهر المقبل. لكن في المقابل يفرض صندوق النّقد شروطاً قاسية على مصر، في مقدّمها إجراء مزيد من الخفض في قيمة الجنيه. ممّا سينعكس مزيداً من التضخّم على المواطنين، بعدما كان الدّعم الذي تقدّمه الحكومة قد جرى تخفيضه على الكثير من السلع الأساسية.

ليس بخافٍ أنّ مصر البالغ عدد سكانها 105 ملايين نسمة تعيش أزمة اقتصادية حادّة

لا يخفي السيسي هذه الصعوبات عن المصريين ويطالبهم بمزيد من الصبر، حتى تؤتي المشاريع الكبرى التي نفّذها في السنوات العشر الأخيرة، ثمارها. ويلقي بالكثير من أسباب الأزمة على العوامل الخارجية، وخصوصاً تأثيرات وباء كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية.

أما المنتقدون فيلقون اللوم على سياسة الحكومة ولا سيما الإنفاق الواسع على المشاريع الكبرى، من بناء العاصمة الإدارية الجديدة وشقّ الطرقات وتشييد الجسور بكلفة فاقت الـ58 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، بدأ المستثمرون الأجانب في السنوات الأخيرة وبينهم دول خليجية ومؤسسات مالية عالمية، بمطالبة السيسي بالحدّ من تدخّل القوّات المسلّحة في الاقتصاد، كشرط للمضيّ في استثماراتهم، فضلاً عن المطالبة ببيع أصول للدولة، وهما خطوتان ليستا بهذه البساطة، ودونهما تعقيدات داخلية، تتعلّق بطبيعة العلاقة بين الجيش والرئيس.

وعلى رغم ذلك، أوحى تقديم السيسي موعد الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في ربيع 2024 إلى أنّ ثمّة خطوات أخرى مؤلمة يتعيّن عليه اتّخاذها إذا ما كان يريد تجنّب المزيد من التدهور الاقتصادي. ويشمل ذلك بالطبع المزيد من القرارات التي لا تحظى بالشعبية وستنعكس على الغالبية السّاحقة من المواطنين. إلّا أنّ الواقع يؤكّد أن لا مفرّ من هذه المعالجات المرّة.

ولا تقلّ الظروف الإقليمية إلحاحاً في المرحلة المقبلة. ولا يمكن لمصر التي تدور على حدودها أعنف حرب منذ عقود، إلّا أن تكون لاعباً فاعلاً فيها. وأكثر ما يقضّ مضاجع الحكومة المصرية، هو وجود اتّجاه إسرائيلي فعلي يعمل حثيثاً على تهجير سكّان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة نحو شبه جزيرة سيناء. وهذه مسألة في غاية الخطورة، من شأنها أن تعيد تشكيل العلاقات المصرية-الإسرائيلية ومعها النظام الإقليمي وتوازن القوى فيه. وإدراكاً للتحولات التي يمكن أن تسفر عنها مثل هذه الخطوة، سارع السيسي إلى التحذير من مغبّة قيام إسرائيل بدفع فلسطينيي غزّة نحو مصر تحت ضغط القصف المتواصل وسياسة التجويع والحصار وجعل غزّة مكاناً يستحيل العيش فيه.

ويتشارك السيسي مع الملك الأردني عبدالله الثاني القلق من إمكان أن تعمد إسرائيل إلى تصدير أزمتها مع الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن. ولا يخفي وزراء إسرائيليون أنّ العودة إلى سياسة "الوطن البديل" للفلسطينيين، هو الحلّ المثالي للمسألة الفلسطينية، وليس القبول بحلّ الدولتين.

ومعلوم أنّ المخابرات المصرية كانت على علاقة جيّدة مع "حماس" في غزة. وسبق أن عملت القاهرة على ترتيب هدنات في النزاعات السّابقة مع إسرائيل، في 2008 و2009 و2014 و2021. وفي الحرب الأخيرة، ساهمت مصر مع قطر وواشنطن في الإعداد للهدنة الإنسانية من 24 تشرين الثاني ولغاية 1 كانون الأول الجاري. بيد أنّ تفجر المرحلة الثانية من الحرب الإسرائيلية، أحيا القلق المصري والعربي من مخطّط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين إلى خارج غزّة. انطلاقاً من هذا التخوّف، تقف مصر بقوّة إلى جانب وقف الحرب والانتقال إلى مرحلة الاعتراف الفوري بدولة فلسطين، وفق ما طالب السيسي، وذلك لقطع الطريق على السيناريوات الأخرى التي تعدّ للمنطقة. ولا يتطلّع الفلسطينيون إلى مصر اليوم كمعبر من أجل وصول الإمدادات الإغاثية فحسب، بل كقوّة إقليمية تستطيع أن تكون طرفاً داعماً للدفع نحو وقف الحرب، تمهيداً لمفاوضات سياسية توصل في نهاية المطاف إلى حلّ الدولتين.

وقبل أشهر من حرب غزّة، انشغلت مصر بانفجار الصراع على السلطة بين قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدّعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وما تلاه من تدفّق لمئات آلاف اللاجئين السودانيين إلى الأراضي المصرية. وبما أنّ السودان يشكّل عمقاً استراتيجياً لمصر، فإنّ استئناف الحرب هناك، ينذر بالفوضى التي تنمو فيها الجماعات الجهادية التي عانت منها مصر ولا تزال بعض خلاياها موجودة في شمال سيناء عبر تنظيم "داعش". ومن هنا، دعمت القاهرة المحادثات بين طرفي النزاع التي جرت في مدينة جدّة برعاية سعودية وأميركية.

وإلى التحدّي الذي تشكله الحرب السودانية ومخاطر تورّط أطراف إقليمية فيها، تبقى ليبيا والفوضى الغارقة فيها نتيجة الصراعات على السلطة، باعثاً على القلق في مصر. وبعد تحسّن العلاقات المصرية-التركية مؤخراً، تجدّدت الآمال في إمكان أن يؤدّي الوفاق الإقليمي إلى تهدئة على الساحة الليبية.

وعلى رغم أنّ مصر تقيم علاقات استراتيجية مع الولايات المتّحدة منذ معاهدة كمب ديفيد في السبعينات، فإنّ السيسي سعى إلى إعادة العلاقات مع روسيا إلى مكانتها التاريخية، عبر أكثر من زيارة لموسكو وتبنْي موقف محايد من الحرب الروسية-الأوكرانية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ القاهرة أبرمت في السنوات الأخيرة صفقات تسلّح مع روسيا، على رغم الامتعاض الأميركي. ولم تكن الصين بعيدة عن اندفاع مصر نحو إيجاد التوازنات في علاقاتها الدولية والبحث عن شراكات اقتصادية جديدة.

وبعد بدايات متشنّجة في العلاقات بين السيسي والرئيس الأميركي جو بايدن، بسبب الانتقادات التي وجهها الأخير للحكومة المصرية في سجلّ حقوق الإنسان، عادت واشنطن إلى نبرة أكثر تودّداً حيال مصر، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية على غزة.

في ظلّ هذه المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية المتأزّمة، سيبدأ السيسي مسيرته نحو عام 2030.