لطالما كانت الإضرابات العمالية والقطاعية هي الأكثر تأثيراً في انتزاع الحقوق وتبديل السياسات. وسواء أتت الإضرابات من أجل قضايا محلّية، كتحسين شروط العمل والدفاع عن الضمانات الاجتماعية، أو بهدف التضامن مع قضايا عالمية كوقف الحروب، فإنّ ثقلها الأساسي يبقى اقتصادياً.
عشية احتفال العالم بـ "اليوم الدّولي للتضامن الإنساني" في العشرين من الشهر الجاري، أضرب العالم تضامناً مع فلسطين. عمّال، طلّاب، ومؤسّسات عامّة وخاصّة في الكثير من الدول قالوا: "كفى سكوتاً عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الشعب الغزّاوي". استعملوا السلاح الأقوى للضغط على حكوماتهم، من أجل انتزاع موقف واضح وصريح، لوقف آلة القتل. فلعلّ الضرر بخزائن الدّول المادّية يوقظ ضمائر المسؤولين، بعدما عجزت مشاهد الدّمار وقتل آلاف المدنيين في سجن غزة الكبير عن تحريك مشاعرهم.
لطالما كانت الإضرابات العمالية والقطاعية هي الأكثر تأثيراً في انتزاع الحقوق وتبديل السياسات. وسواء أتت الإضرابات من أجل قضايا محلّية، كتحسين شروط العمل والدفاع عن الضمانات الاجتماعية، أو بهدف التضامن مع قضايا عالمية كوقف الحروب، فإنّ ثقلها الأساسي يبقى اقتصادياً. ففي فرنسا مثلاً، التي ترسّخت صورتها في الذاكرة العالمية على أنّها منبع الإضرابات، فإنّ 22 يوماً من الإضرابات في العام 1995، كلّفت الاقتصاد ما بين 0.2 إلى 0.3 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي. بالأرقام، كلّف الإضراب في أقلّ من شهر 4.8 مليار دولار، وذلك بالاستناد إلى أنّ حجم النّاتج كان يبلغ بحسب بيانات البنك الدولي في ذلك العام 1.6 ترليون دولار.
كلفة الإضرابات
لتبسيط الحسابات يمكن القول إنّ المعادلة التي تحتسب على أساسها كلفة كلّ يوم إضراب عام وشامل هي: قسمة النّاتج المحلّي الإجمالي على عدد أيام العمل الفعلية. وإذا طبّقنا هذه المعادلة على دولة مثل لبنان نستنتج أنّ كلفة الإضراب العام والشامل من الناحية الاقتصادية الصرف تبلغ يومياً قرابة 62 مليون دولار رسمياً في أقلّ تقدير، وحوالي 124 مليون دولار إذا افترضنا أنّ نصف الاقتصاد يعمل في الأسود. وذلك بالاعتماد على أنّ الناتج المحلّي يبلغ 18.5 مليار دولار، وعدد أيام العمل الفعلية تبلغ 296 يوماً، إذا استثنيا الآحاد والأعياد والعطل الرسمية المحدّدة من قبل مجلس الوزراء بـ 17 يوماً. وعليه "إذا كان لبنان الرسمي متضامناً مع غزّة بشكل علني، ومع وقف الحرب التي تطال مناطقه الجنوبية وتلحق بها الدمار والخراب، فماذا يفيد الإضراب من الناحية الفعلية"، تسأل أوساط اقتصادية. وبرأيها فإّن "التبرّع بهذا المبلغ لفلسطين أو لتعويض عائلات جنوب لبنان ودعم النازحين وإعادة إعمار ما تهدّم مفيد أكثر بما لا يقاس".
اللبنانيون الذين ركبوا "قطار" الإضراب العالمي تضامناً مع فلسطين، نظروا للخلف بتحسّر على عدم مبارحة قطار الإصلاحات مكانه من محطة التعطيل
الإضراب يريح كيان العدو
خلافا للكثير من الدّول فإنّ لبنان يعتبر "إسرائيل" كيان احتلال، وهو على عداء معه. أمّا من النّاحية الاقتصادية فإنّ هذا الكيان يعتبر المنافس الأول للبنان، خصوصاً في قطاعات السياحة والخدمات والموانئ البحرية وجذب الاستثمارات. ومن هذه الزاوية يصبح "كلّ يوم تعطيل في لبنان، وما أكثرها، هو مكسب للاقتصاد الإسرائيلي، وليس العكس خصوصاً في ظلّ الحرب"، يقول الصناعي بول أبي نصر. "فالدول، ولاسيما العربية منها، التي تربطها علاقات اقتصادية مع إسرائيل لن تقدر في ظلّ الحرب على استئناف العلاقات بوتيرة طبيعية، أقلّه من الناحية الأخلاقية. وقد تعتمد العودة إلى مرافئ بيروت، خصوصاً البحرية منها، كقواعد انطلاق أساسية على المتوسط، بديلاً عن مرفأ حيفا الذي أخذ مكانها". إلّا أنّه مع توالي الإضرابات في مرفأ بيروت تحديداً، مرّة بسبب الأزمة وأخرى لاعتراض أصحاب الشاحنات وتوقّفهم عن العمل، ومرّات بسبب خروجه عن الرقابة الفعلية واعتماده كمنصّة لتهريب الممنوعات، فإنّ "أيّاً من التجار لن يجرؤ على استعماله مهما كان الثمن".
مقاربة الإضراب الذي دعت إليه الحكومة اللبنانية من الناّحية الاقتصادية البحت يبدو "سرياليا"، من وجهة نظر أبي نصر. فهذا الضغط الكبير والحشد العمّالي والقطاعي والتربوي الكبير سيذهب هباء، في ظلّ عدم وجود ما نضغط لتحقيقه. فنحن في الأساس لا نتعاطى مع كيان العدو تجارياً لنضغط على وقف تبادل السّلع معه. وموقعنا في الاقتصاد العالمي أصغر بكثير من أن يحدث أيّ فرق في مواقف الدول الكبيرة. وعليه فإنّ "تعطّل الاقتصاد اللبناني لأيّ سبب كان يريح العدو الذي يتكبّد خسائر يومياً تقارب نصف مليار دولار"، من وجهة نظر أبي نصر. فالمقاربة التي اعتمدتها السلطة، "ديماغوجية، نتيجتها على الأرض صفر. وكان الأجدى استبدال الإضراب بيوم وطني لجمع المساعدات لغزّة وليس تعطيل المؤسسات التي تأثّرت سلباً بسبب دخول لبنان الحرب، هذا من حيث المضمون. أمّا في الشكل فإنّ الأمور مسيئة أكثر. فالإضراب هو توقّف جهة عن عمل ما، للضغط على جهة أخرى لتحقيق مطالبها. فمن يضغط على من في حالتنا الراهنة؟
الإضراب جزء من حركة إنسانية اقتصادية
من الناحية النظرية تعرّف الامم المتحدة التضامن في إعلان الألفية بأنّه: "أحد القيم الأساسية للعلاقات الدولية في القرن 21، حيث يستحق الذين يعانون (ومن لم يستفد كثيراً من العولمة) المساعدة والعون ممّن استفادوا كثيرا منها". مع التأكيد على أنّ التضامن هو "يوم للاحتفاء بوحدتنا في إطار التنوّع". وبمطابقة هذا التعريف على معاناة الفلسطيني في زمن الحرب يمكن القول إنّ "الالتزام بالإضراب هو جزء من حركة إنسانية اقتصادية"، برأي الباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين. "فالبشر لا يقاسون في معادلات البيع والشراء، حيث للاقتصاد الحقيقي أبعاداً إنسانية واجتماعية، وأخرى مرتبطة بالواقع العالمي. هذا عدا عن أنّ مخاطر هذه الحرب التي تهدّد المنطقة برمّتها أكبر بكثير ممّا قد ينتج من يوم إضراب واحد. وما يتحضّر للبنان لاحقاً أخطر مما يحصل في غزة. كما إنّ هذا الضغط ليس في وجه إسرائيل بقدر ما هو بمواجهة الولايات المتحدة الاميركية المصرّة على استكمال الحرب".
مخاطر الحرب مع ما تفرضه من ارتفاع في الأكلاف الاقتصادية على لبنان ودول المنطقة وتهديدها بإشعال اقتصاديات برمّتها أكبر من يوم إضراب أعلنه لبنان لثبيت موقفه الرافض للحرب"، من وجهة نظر ناصر الدين. "فهذا الإضراب لن يشلّ الاقتصاد كما يصوّر البعض ولن يغيّر بالمنطق الاقتصادي الموجود. هذا عدا عن أنّ الحرب قد توصل لبنان إلى يوم لا يعود فيه هناك أيّ عمل وتصبح خسائر الاقتصاد مضاعفة". وبشكل خاص فإنّ الإضراب هو جزء من مبادرة عالمية إنسانية اجتماعية اقتصادية لإيقاف هذا العدوان لتخفيف المخاطر الاقتصادية"، بحسب نصر الدين. "أمّا استمرار هذا العدوان فهو مكمن الخطر الذي سيجرّ مخاطر اقتصادية على المنطقة بأكملها".
اللبنانيون الذين ركبوا "قطار" الإضراب العالمي تضامناً مع فلسطين، نظروا للخلف بتحسّر على عدم مبارحة قطار الإصلاحات مكانه من محطة التعطيل.