ساهمت وسائل الإعلام الغربية والعربية على حدّ سواء، في التسويق لنهج العبرنة عبر استخدامها مصطلحات عدّة تحمل في طيّاتها نوعاً من الدّعم الخفي للرواية الإسرائيلية...
"لا يوجد طرفي نزاع يوجد طرف واحد هو المحتلّ المعتدي الغازي المستعمر المحاصِر والشعب الذي يقبع تحت الاحتلال، ومصطلحات مثل حرب وما شابه هي غير لائقة. فالمصطلح الأساسي هو عدوان حقيقي يرتقي إلى جرائم إبادة جماعية"، بهذه الجملة انتقد السفير الفلسطيني لدى بريطانيا حسام زملط، تقريراً أعدّته قناة العربية مضيفاً "من المهمّ جداً عدم تبنّي أيضا مصطلحات مثل طرفي الصّراع والنّزاع، وأنّ المظاهرات المؤيّدة جاءت للجانبين والطرفين، فأنا لست متأكّداً من أنّ هذا التقرير دقيق حقيقة. فما شهدناه غير مسبوق في حراك الشعوب وخصوصاً الشّعب البريطاني الذي تحرّك مساندة ونصراً لفلسطين وللحقوق الفلسطينية ومعاداة للظلم وللقتل ولجرائم الحرب التي حصلت. وهذا التاريخ الذي سجّله الشعب البريطاني يجب أن تسجّله الشاشات ووسائل الإعلام العربية ".
كلام زملط، يفتح الحديث عن محاولات إسرائيلية قديمة جديدة، لعبرنة كلّ ما له علاقة بفلسطين، في محاولتها لمسح وتغييب كلّ ما له ارتباط بفلسطين. حيث لم تكتف الرواية الصهيونية الأميركية بتزوير حقائق الأحداث المروّعة التي تحصل في غزّة، في محاولة لتغطية جرائم الإبادة الجماعية الحاصلة بحقّ أطفال غزّة، وقلب الحقائق وحسب، بل عمدت إسرائيل إلى اللجوء لما هو أخطر من الحرب والقتل وجرائم الإبادة الجماعية، ودولة الفصل العنصري، حيث سعت إلى سرقة كلّ ما كان يوماً فلسطينياً، وطمسه ولصقه ببصمة إسرائيلية ملوّثة بدماء أطفال ونساء ومقاومي غزّة.
وللأسف ساهمت وسائل الإعلام الغربية والعربية على حدّ سواء، في التسويق لنهج العبرنة عبر استخدامها مصطلحات عدّة تحمل في طيّاتها نوعاً من الدّعم الخفي للرواية الإسرائيلية، فتؤثّر بدورها على المتلقّي الذي يتبنّى هذه المصطلحات فيردّدها من دون علمه بالمعاني الخفية التي تحملها.
في هذا الإطار لفتت د. حياة حريري، أكاديمية وباحثة في السياسة والإعلام، في حديثها لموقع الصفا نيوز إلى أنّه "وخلال العدوان على غزّة، تمّ تسليط الضوء على عدد من المدن الفلسطينية التي لم تكن معروفة من قبل عند الجمهور العربي، بسبب اعتماد الإعلام الأجنبي والعربي على المصطلحات العبرية لتسمية المدن. ولكن خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة قام عدد من الأفراد والمواقع الإلكترونية بالعودة إلى استخدام أسماء المناطق والقرى والمدن الفلسطينية بتسميتها الأصلية، كنوع من التضامن مع القضية الفلسطينية".
ومن القرى الفلسطينية التي غيّر العدو الإسرائيلي أسماءها ذكرت حريري، "بلدة إيلات في ساحل خليج العقبة في البحر الأحمر وتسميتها الفلسطينية الأصلية هي أم الرشراش. وأيضا تل أبيب هي في الأصل قرية الشيخ مؤنس يافا. فيما يسمي العدو الإسرائيلي مدينة القدس بـ "أوراش ليم"، وبلدة بئر السبع في جنوب فلسطين بـ “بير شفاع". فيما بلدة نتانيا في قضاء تل كرم اسمها الحقيقي أم خالد، ومدينة عكا يسميها الإسرائيليون عكو، أمّا كريات شمونا فهي بالأَصل الخالصة، وقرية البروي في شمال فلسطين وشرق عكا يسميها العدو الإسرائيلي أحي هود، وعسقلان في شمال غزة يسميها العدو أشكلن. وكرم أبو سالم على حدود غزة ومصر يسميها الإسرائيليون كيمشالون، ومدينة اللد يسميها الإسرائيليون باللوذ، وزخريا في شمال غرب الخليل هي بالأصل قرية زكريا".
"ولا شكّ بأنّ هناك المئات من القرى الفلسطينية والمدن الأخرى التي غيّر العدو أسماءها، واللائحة طويلة"، بحسب حريري، "ولهذه الحملات أهمّية كبيرة، في إعادة التسميات الأصلية للقرى والمدن الفلسطينية، وهي نوع من الضغط على محرّكات البحث على جوجل، لتكون الأسماء موجودة بهويتها الأصلية حيث أنّ وجود هذه المدن هو امتداد للهوية الفلسطينية، وجزء أساسي من الهوية الفلسطينية التي يسعى العدو جاهدا إلى طمسها".
مصطلحات انتشرت خلال العدوان على غزّة
ومن المصطلحات التي انتشر استخدامها في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزّة عدّدت حريري "مصطلح السردية الفلسطينية، والسردية الإسرائيلية، وهو مصطلح لم يكن منتشراً قبل الحرب، حيث كانت معظم وسائل الإعلام تتناول سردية واحدة وتتبنّاها. بالإضافة إلى مصطلح "كيبوتس" وهو يستخدم للدلالة على شكل من أشكال المستوطنات والتجمّعات الاستعمارية، فبعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها المقاومة الفلسطينية بدأ الحديث عن التجمّعات الاستيطانية الإسرائيلية. كما تمّ تداول مصطلح الإبادة الجماعية بكثرة، نظراً لحجم الجرائم الإسرائيلية على غزة، والتي تخالف جميع القوانين والمواثيق الدولية، وهذا المصطلح هو أفضل مصطلح قانوني يوصّف حقيقة ما يحصل في غزّة. فضلاً عن مصطلح الهدنة ووقف إطلاق النّار، ويتمّ التداول بهما بكثرة في هذه المرحلة على وسائل التواصل الاجتماعي ويتمّ الحديث عنهما بكثرة اليوم".
العبرنة والتهويد
بدوره رأى د. محيي الدين شحيمي، استاذ القانون والسياسات الخارجية في باريس، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" أنّ "هنالك جريمة صهيونية ترتكب (على الناعم) لا تقلّ شراسة عن جرائم الكيان الإسرائيلي المشهودة والموصوفة بحقّ الشعب الفلسطيني والتي تكسر حلقة الأمان والثّقة بالقوانين الدوليّة والمواثيق الأممية، وهي جريمة (العبرنة والتهويد) المنهجيين بوتيرة بطيئة لكنّها أقسى".
ولفت إلى أنّها "خطة تنطلق من المهندسات الصهيونية العنصرية والقائمة على روايات متناقضة ومخالفة لحلقات ودلالات المشهد التاريخي والحضاري الفلسطيني أرضاً وشعباً. من خلال الاستهداف لأركان الهويّة الفلسطينية متبنّية في ذلك سلوكيات استعمارية مخططة وممنهجة. حيث يعتبر طمس الهوية في المنظار الحقوقي انتهاك للقانون الدولي والداخلي، وهي مخالفة للقوانين الدولية الإنسانية والتي تشدّد على حماية عدد من الحقوق المدنية والسياسية مثل حقّ الأفراد والهوية. وهي حرب تنطلق من مكامن دينية توراتية في سبيل جعل كلّ شيء غير يهودي صهيوني توصيفاً على أنّه وهم وسراب".
مثلّث اللغة والثقافة والدين
وتابع "ويعد مثلث اللغة والثقافة والدين هو المستهدف هنا. حيث تعتبر (عبرنة) الاسماء المكانية والجغرافية عملية استكمالية لفعل التهويد، وصيغة جديدة من حرب الانقضاض على الوعي الحقيقي والرواية للوجود الفلسطيني. اذ يعتبر التغييب الحيثي للعربية عن اسماء الشوارع والاماكن والمواقع ترجمة فعلية لأهداف الفكر الصهيوني في القومية اليهودية لإسرائيل والمتستر تاريخيا بحجة الحد من فوضى التسميات وهو قانون صدر في العام ١٩٥١".
واعتبر أنها "مخالفة صريحة للأعراف الدولية في كونها محاولة تعسفية لاحتلال الوعي العربي وهو تطبيقا صريحا للرؤية الصهيونية التقليدية. وارتكز المشروع الصهيوني على ركيزتين الاولى هي هجرة اليهود والثانية في احياء اللغة العبرية والعمل على سطوتها وغلوها استثمارا لتحقيق الاهداف السياسية والثقافية والايديولوجية، في اشارة الى ان اهم استثمار صهيوني كان ادخال العبرية في الصراع كأهم المشاريع اللغوية والفكرية لإعادة صياغة ملامح جديدة للأرض وفرض هوية جديدة تخفي كلّ ما سبق وتقضي وتنفي وجود اللغة العربية".
مسح الماضي
وأوضح شحيمي أنّه "تعتبر العبرنة جزءاً لا يتجزّأ من عمليات الاستيطان وهي جوهر الفكر الديني التوراتي من بوابة أنّ تغيير الأسماء الجغرافية مقدّمة لبناء علاقة جديدة وفق ما تراه العين. من هنا جاء اعتمادهم على وجوبية إعطاء تسميات جديدة للمناطق العربية المستوطنة بأسماء عبرية لطمس هويتها وسحق انسانيتها الحقيقية والروحية. وهي مخالفة لأعمال وأفكار التنمية المستدامة للأمم المتحدة التزاما ًدولياً بتوفير الهوية القانونية. والحقّ في الهوية الشخصية هو حق معترف به في القانون الدولي، وبالتالي هي عملية مسح الماضي والبيئة لخلق نوعية تعايش غير طبيعية".
الكلمة بالكلمة
في المقابل بدأنا نقرأ ونسمع بمصطلحات جديدة، انتشرت بكثرة منذ طوفان الأقصى، اخترعها مؤثّرون على مواقع التواصل الاجتماعي واستخدمت للاستهزاء أو انتقاد الفكر والأداء الإسرائيلي. ومن هذه المصطلحات نذكر "being israeled"، وهو مصطلح انتشر على شكل نكتة على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدمت لتوصيف قيام شخص ما بالاستيلاء على غرض ليس من حقه.
وبدوره تحدّث النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي احمد الطيبي عمّا أسماه بالـFlagophobia P أي حالة الخوف ورهاب العلم الفلسطيني التي تصيب الإسرائيليين في كل ّمرّة يرون فيها العلم الفلسطيني فيلجأون إلى أساليب عنيفة كردّات فعل على هلعهم.
وقال الطيبي "فجأة يصبح العلم الفلسطيني سبباً للحرب، يعاقبون الجامعات ويلاحقون طلّابنا لرفعهم العلم الفلسطيني، يعتدون على نعش الشهيدة شيرين أبو عاقلة بسبب العلم الذي لفّ به النعش، أو لمجرد رفع فتاة للعلم".
كما بدأنا نشهد استخداماً لعبارة Settler colonizer لتوصيف أفعال الإسرائيليين والكيان الصهيوني. وهو نظام قمع قائم على الإبادة الجماعية والاستعمار، يهدف إلى تهجير سكان الأمة (في كثير من الأحيان السكان الأصليين) واستبدالهم بسكان مستوطنين جدد.
حتّى أنّ مصطلح occupation تردد بكثرة، للسخرية على الإسرائيليين، فلهذه الكلمة أكثر من معنى باللغة الأجنبية، وتعني إمّا الوظيفة التي يشغلها الفرد أو احتلال دولة أو شخص لأرض غير أرضه او انشغال. وأكثر من استهزأ بهذا المفهوم واستخدمه بمعنييه بمقاطع فيديو كوميدية خاصّة على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي هي المؤثرة الرومانية نيكول جينس، وأشهر فيديوهاتها حمل عنوان مجرّد زيارة أم احتلال؟ كما أنّها لعبت على الكلمات في معظم مقاطع فيديوهاتها، كاستخدام عبارة isnotreal بدل Israel وterrorist بدل tourist لتوصيف السائح الإسرائيلي.
في المحصّلة، تبقى الكلمة أقوى سلاح بوجه أيّ عدوان، فانتبهوا للمصطلحات والعبارات التي تستخدمونها، حيث أنّها قد تحمل معاني مغفلة ومبطّنة في طيّاتها، تجعلكم عبر استخدامها تدعمون قتل وسفك دماء شعب أصيل على حساب دعم محتلّ خبيث.