مهمّة لودريان هذه المرّة ستكون مختلفة، ولكن ستكون مستفيدة من المرحلة السابقة في ظلّ وجود عزم فرنسي على إنجاح هذه المهمة برغم من كل التعقيدات الموجودة...
على وقع هدنة الأربعة أيام في غزّة، والتي انسحبت على الجبهة الجنوبية اللبنانية التي تنتهي اليوم وربما سيتمّ تمديدها، تجدّد الحديث في مختلف الأوساط السياسية في لبنان عن الاستحقاق الرئاسي مغلفاً بالاستحقاق العسكري، في الوقت الذي تؤكّد الأوساط الديبلوماسية الفرنسية في لبنان أنّ الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان سيزور لبنان قريباً، حاملاً مبادرة فرنسية بحلّة جديدة لا تهمل طبعتها السابقة، ولكنّها تأخذ في الاعتبار حرب غزّة والتطورات التي نجمت منها، وفي مقدّمها الوضع على حدود لبنان الجنوبية وما أثاره داخلياً من مواقف متعارضة، اقترن بعضها بدعوات إلى تنفيذ القرار الدولي 1701، ورافقها دعوات دوليّة إلى عدم توسّع دائرة المواجهات بين حزب الله وإسرائيل كي لا يؤدّي إلى نشوب حرب شاملة في المنطقة.
لكن مع انكشاف حجم الدمار الهائل الشبيه بما حصل في الحرب العالمية الثانية الذي خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، ظهر في رأي المتابعين، أنّ إسرائيل أرادت منه توجيه رسالة ردع إلى لبنان، وإلى حزب الله تحديداً، مفادها أنّ مثل هذا النموذج ستطبّقه على الأراضي اللبنانية، وفق مقولة "أضرب الضعيف ضربة يرتجف لها قلب القوي"، لكن تبيّن إلى الآن أنّ "الضعيف" الفلسطيني، أي المقاومة، لم يكن ضعيفاً، وهو على استعداد لاستئناف القتال ضدّها غير آبه بالدمار والمجازر التي ارتكبتها، وأن "القوي" اللبناني، أي حزب الله، لم يرتجف قلبه وإنّ يده على الزناد مستعداً لكلّ الاحتمالات، سواء تمدّدت الهدنة أم قرّرت إسرائيل توجيه الضربة التي توعّدت بها بـ"إعادة لبنان إلى العصر الحجري"، حسب تهديداتها المتكررة.
على ما يكشف ديبلوماسي فرنسي بأنّ لودريان آت إلى لبنان هذه المرة ساعياً لدى الافرقاء السياسيين إلى تمكينه من إقامة سلطة جديدة عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة حتّى يستطيع مواجهة تداعيات ما يجري في غزة والجنوب اللبناني، إذ لا يمكنه في وضعه الحالي من التعاطي مع مرحلة "اليوم التالي" التي بدأت تفرض نفسها، حيث إنّ الهدنة القائمة من شأنها خفض التصعيد، وأن تفتح نافذة على الحلول المطلوبة. ويقول هذا الديبلوماسي إنّ فرنسا وجّهت، ولا تزال توجّه رسائل إلى الجميع، لإسرائيل ولمختلف الأطراف اللبنانية لعدم الانجرار إلى تصعيد يتسبّب بحرب كبرى في المنطقة، وتؤكّد هذه الرسائل على أنّ الحرب في غزّة كما في الجنوب اللبناني لا بد من أن تتوقّف ليبدأ البحث في ما يجب القيام به في اليوم التالي، ولأجل هذا سيستبق لودريان وصوله إلى بيروت بجولة في المنطقة تشمل على الأقل المملكة العربية السعودية وقطر وربما مصر، وهي الدول الأعضاء في المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
وحسب هذا الديبلوماسي، فإنّ فرنسا استفادت من المرحلة السابقة حيث تعرّضت مبادرتها التي كانت قائمة على معادلة سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة لانتقادات كثيرة، ولكنّ باريس تعترف بأنّ الافرقاء اللبنانيين هم من غيّروا مفهومها لموضوع رئاسة الجمهورية، لأنّ الجانب الفرنسي انطلق في الأساس من مبدأ أنّ هذه المعادلة من شأنها أن تضمن انتخاب رئيس جمهورية ورئيس حكومة، معاً يستطيعان تحقيق الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ لبنان من الأزمة، فباريس لم تدعم شخصاً للوصول إلى رئاسة الجمهورية وإنّما دعمت "معادلة معيّنة" تفضي إلى الحلول المطلوبة. لكنّ بعض الأفرقاء اللبنانيين أظهروا الموقف الفرنسي على غير حقيقته، لأنّهم وجدوا في ذلك مصلحة لهم، ما اضطرّ لودريان في هذه الحال إلى طرح معادلة أخرى (عندما طرح موضوع اللقاءات بينه وبين مختلف الأفرقاء بما يمكن أن يفضي رلى طاولة نقاش أو تشاور في ما بينهم جميعاً). علماً أنّ توجه فرنسا الأساسي يقوم على مساعدة لبنان على الخروج من الأزمة وإجراء الإصلاحات المطلوبة لهذه الغاية، ولكنّ هذا الأمر لا يمكن فرنسا أن تقوم به وإنّما على المؤسسات اللبنانية وفي مقدمها مجلس النواب وعلى الأفرقاء اللبنانيين القيام به في النهاية، وتعتقد فرنسا أنّ الوقت قد حان لقيام المؤسسات اللبنانية بمهمّاتها، خصوصاً وأنّ لبنان يقف على شفير حرب، ما يفرض على اللبنانيين الانخراط في حوار وطني يُفترض أن يؤدّي إلى اتفاق على الحلول المطلوبة.
رسالة فرنسا إلى اللبنانيين الآن تحضّهم على الحوار في ما بينهم
ويعترف المصدر الديبلوماسي نفسه بأنّ المشهد اللبناني بات مختلفاً جداً بعد عمّا كان عليه قبل حرب غزة، وما يجري على جبهة لبنان الجنوبية، ولذلك فإنّ مهمّة لودريان هذه المرّة ستكون مختلفة، ولكن ستكون مستفيدة من المرحلة السابقة في ظلّ وجود عزم فرنسي على إنجاح هذه المهمة برغم من كل التعقيدات الموجودة، وكلام البعض من أنّ على قطر أن تتولّى هذه المهمّة بدلاً من فرنسا، علماً أنّه وخلافاً لما يشيعه البعض ليس هناك أيّ تناقض بين باريس وواشنطن التي تعتنق مقاربة تعتبرالأزمة اللبنانية جزءاً من الملفّات الإقليمية، وتعبّر عن استياء وسأم من الطبقة السياسية اللبنانية وطريقة تعاطيها مع هذه الأزمة، وبمعنى آخر فإنّ هذه المقاربة الأميركية هي "مقاربة تكميلية" لمقاربة المجموعة الخماسية العربية – الدولية ككلّ والتي تشدّد على ضمان الاستقرار في لبنان، لأنّ ما يحصل يمكن أن يؤدّي إلى اندلاع حرب إقليمية، وهو احتمال لا يمكن اسقاطه من الحسبان، حسب المصدر نفسه، فما حصل ينبغي أن يجني لبنان منه شيئأ إيجابياً، الأمر الذي لم يتحقّق بعد. ولذلك فإنّ الوقت الآن هو للقول للبنانيين أنّه بات ينبغي العمل جدياً لإيجاد حلّ للأزمة وخروج هذا الفريق أو ذاك من الحسابات السياسية التي تعطّله. علماً أنّ لودريان، يقول المصدر، آت وهو يدرك صعوبة الوضع والمهمّة، ولكنّه عازم بقوّة على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المعنية، بما يساعد على إنجاز الاستحقاقات والسير في الاصلاحات الانقاذية المطلوبة، ولا يعتقدّن أحد أنّ فرنسا سحبت يدها من الملفّ اللبناني، وأنّ الدروس التي استخلصها لودريان من زياراته السابقة للبنان ما تزال صالحة، ففي الجنوب المشكلة تتعلّق بتطبيق القرار 1701 وليس إعادة النظر فيه، وهذه المشكلة ستطرح في الأسابيع المقبلة لإنتاج صيغة يمكن من خلالها انتاج حلول.
ويؤكّد المصدر أنّ رسالة فرنسا إلى اللبنانيين الآن تحضّهم على الحوار في ما بينهم، فلودريان كان مقرّراً أن يزور لبنان في تشرين الأول الماضي، ولكن ما حصل في غزّة وجنوب لبنان أعاد خلط كلّ الأوراق ما جعل الوضع الآن مختلفاً ويستدعي التحرّك السريع، فالملفّ اللبناني ما زال على الأجندة الفرنسية، ولذلك فإنّ الموفد الرئاسي الفرنسي سيدعو الأفرقاء اللبنانيين إلى الاستمرار في البحث عن الحلّ المنشود، ولهذه الغاية ستكون له لقاءات مع عدد من المسؤولين والأفرقاء، على أن يحدّد في ضوئها خطواته اللاحقة لأنّ هناك انطباع عن أنّ "لبنان يقف على شفير الهاوية".
والى ذلك يتناول المصدر الفرنسي ملفّ النزوح السوري، فيرى وجوب أن يحصل اتفاق بين لبنان ومفوضية الأمم المتّحدة في شأن النازحين السوريين، حتّى تكون لدى فرنسا صورة واضحة عن وضع النزوح. ويعرج المصدر على موضوع الفرنكوفونية فيقول "إنّ الحالة اللبنانية مختلفة عن غيرها نسبة إلى العلاقة التاريخية بين لبنان وفرنسا، فاللغة الفرنسية كانت محكية بين الناس وفي ضوء التوازنات الديموغرافية في لبنان لا بدّ من الاشارة إلى أنّ النمو الديموغرافي هو أكثر ارتفاعا في بيئات لم تكن فرنكوفونية، وهدف فرنسا هو ضمان جودة التعليم الفرنكوفوني والعمل ضمن هذه البيئات، ومدّها بإمكانات الوصول إلى التعليم الفرنكوفوني".
ويخلص المصدر إلى التوقّف عند التبدّل في الموقف الفرنسي من حرب غزة فهو بعد أن كان في البداية مؤيداً لإسرائيل وكان تفسيره معقّداً، نتيجة وجود فرنسي بين الضحايا، ولكن سرعان ما تغيّر هذا الموقف كما عبّر رئيس الجمهورية ايمانويل ماكرون بالتشديد على حقوق الشعب الفلسطيني في إطار حلّ الدولتين، وهناك الآن بحث في العنف الذي يمارسه المستوطنون ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهذا الموضوع سيكون موضوعاً مهماً للبحث والمعالجة في الأسابيع المقبلة، وستتقدّم فرنسا بطروحات في هذا الصدد، لأنّ هناك خطراً يجب تلافيه.