هل يشكّل انتخاب ميلي انقلاباً في سياسة الأرجنتين ومؤشّراً لحقبة من الرؤساء المنتمين إلى أقصى اليمين المتطرّف في أميركا اللاتينية؟
بقدر ما أثار فوز المرشّح الليبرالي المتطرّف خافيير ميلي آمالاً في الأرجنتين بوضع حدّ لمسار الانهيار الاقتصادي، بقدر ما أثار من رعب حيال خطاب شعبوي يتضمّن انقلاباً على الحقبة البيرونية ومهادنة مع الحكم الديكتاتوري للعسكريين بين عامي 1976 و1983.
أمّا وقد انتهت مرحلة التعبئة والبلاغة التي تمكّن ميلي من خلالها من الفوز بغالبية كاسحة بلغت نحو 56 في المئة في مقابل 44 في المئة لمنافسه وزير الاقتصاد سيرخيو ماسا، فإنّ الرئيس المنتخب يصطدم الآن بحقيقة بلد على حافّة الإفلاس، مع نسبة تضخّم تبلغ 143 في المئة مع توقّع صعوده إلى 200 في المئة أوائل العام المقبل. بينما فقدت العملة الوطنية "البيزو" 90 في المئة من قيمتها في السنوات الأخيرة. ويبلغ سعر الصّرف الرّسمي 354 بيزو مقابل الدولار، لكن يجري التداول به في السّوق السوداء بسعر 900 بيزو للدولار. ونسبة الفقراء تبلغ 40 في المئة من السكّان البالغ عددهم 48 مليوناً. وتستهلك برامج الرّعاية الاجتماعية واحد في المئة من إجمالي النّاتج المحلي. ويعتمد 51 في المئة من السكّان على هذه البرامج.
وكانت حكومة الرئيس السابق ألبرتو فرنانديز تكافح لدفع تكاليف فائدة قرض من صندوق النقد الدولي يبلغ 44 مليار دولار، بينما نسبة الدّين العام إلى إجمالي الناتج المحلي هي 90 في المئة. ويبلغ حجم ديون الأرجنتين 150 مليار دولار، لتكون في مقدّمة الدول ذات المديونية المرتفعة إلى جانب مصر والأكوادور.
في مواجهة هذا الوضع الكارثي، يقترح ميلي الذي يصف نفسه بـ"الرأسمالي الفوضوي" ما يسمّيه "العلاج بالصدمة" و"النموذج الجديد" من أجل جعل الأرجنتين "بلداً عظيماً". ويؤكّد أن دولرة الاقتصاد هي العلاج المناسب لتفادي الإنهيار الشامل. لكنّ المشكلة التي ستواجهه على هذا الصعيد أنّ الدولة لا تملك ما يكفي من الدولارات لتطبيق الدولرة، حتّى في المرحلة الانتقالية. الشعارات شيء والواقع شيء آخر. والدولرة هي خطوة يراها ميلي ضرورية لإلغاء البنك المركزي. وجدير بالذّكر أنّه إلى الولايات المتحدة، هناك ثمانية دول في العالم، تعتمد الدولرة بينها الإكوادور وبناما في أميركا اللاتينية.
ويلامس ميلي موضوعاً متفجّراً آخر، عندما يقترح خفض الإنفاق العام بنسبة 15 في المئة، ووضع حدّ للدّعم في مجالات النّقل والطاقة وتحرير الأسعار وإلغاء الضرائب على الصادرات، وتخصيص 34 شركة تملكها الدولة وخفض التعويضات والامتيازات الممنوحة لقضاة المحكمة العليا والديبلوماسيين والرؤساء.
تضع خطط ميلي الأرجنتين أمام تغييرات جذرية في اقتصاد السوق، فهو يرى أنّ العدوّ الأوّل للبلاد هو "الاشتراكية". ولاحظ الكاتب الأرجنتيني يوكي غوني في مقال بصحيفة "الغارديان" البريطانية، كيف أنّ ميلي ذهب خلال حملته الانتخابية إلى حدّ إسقاط مقولة للمفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي عن أنّ "اليسار الثوري يحتاج إلى هيمنة ثقافية كي يحقّق أهدافه"، على حكم الحقبة البيرونية. وقال للصحافي تاكر كارلسون من شبكة "فوكس نيوز" الأميركية في أيلول، إنّ الشيوعيين "ليست لديهم مشكلة في التغلغل داخل الدولة مستخدمين أساليب غرامشي".
يشبّه كثيرون ميلي بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خصوصاً بالنّسبة لخطابه الشعبوي وتبنّي سياسات لا تعير كبير اكتراث للتغيّر المناخي، ويدعو إلى حظر الإجهاض وتخفيف القيود على اقتناء السلاح. كما أنّه يعتبر أنّ الشريكين الاقتصاديين الأوّلين للأرجنتين، وهما البرازيل والصين، يضرّان بالاقتصاد الأرجنتيني، ويدعو إلى إعادة النّظر في هذه العلاقات، مفضّلاً فتح البلاد على التجارة الحرّة والانسحاب من تكتّل "ميركسور" التجاري الذي يضم الأرجنتين والبرازيل والباراغواي والأوراغواي، علماً أنّ هذا التكتّل على أبواب الدخول في شراكة اقتصادية مع الاتّحاد الأوروبي. ولا يخفي ميلي أنّه يفضل العلاقات مع "العالم الحر والولايات المتحدة وإسرائيل". وكان لافتاً إعلان اعتزامه زيارة واشنطن وتل أبيب قبل تسلّمه مهام منصبه رسمياً في العاشر من كانون الأول المقبل. ولم يخفِ نيته في عدم ضمّ الأرجنتين إلى مجموعة دول "بريكس" المؤلّفة من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وكانت المجموعة وجّهت دعوة لانضمام ست دول جديدة إليها من بينها الأرجنتين. وكان الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، قد ألحّ في قمة "بريكس" الأخيرة في جنوب إفريقيا على ضرورة إدخال الأرجنتين بهدف منح ثقل لأميركا اللاتينية داخل المجموعة، التي تقدّم نفسها بديلاً للنظام الاحادي القطب الذي تقوده الولايات المتحدة.
حذّرت الصين من "خطأ فادح" في حال مضى ميلي في قطع علاقاته التجارية مع الصين والبرازيل
والتفكير الشعبوي لدى ميلي ينعكس دفاعاً مستميتاً عن حقبة الحكم الديكتاتوري للجنرالات بين عامي 1976 و1983، ويعتبر أنّ هذه السنوات "كانت تشهد حرباً بين مجموعة من المخرّبين الذين كانوا يسعون إلى فرض الديكتاتورية الشيوعية وبين قوات الأمن التي ربما بالغت في ممارساتها". ومعروف عن نائبة ميلي فيكتوريا فيارويل أنّها كانت محامية الدفاع عن الضباط المدانين بجرائم ضدّ الإنسانية خلال الحكم العسكري. وهذه من القضايا المثيرة للجدل داخل المجتمع الأرجنتيني وقد تثير غضب الشارع في حال قرّر الرئيس الجديد الذهاب إلى حدّ العفو عن الضبّاط.
ويبقى أنّ وضع ميلي لسياساته موضع التنفيذ يحتاج إلى موافقة البرلمان، الذي يحتفط البيرونيون فيه بالكتلة الأكبر. ويشغل حزب "ليبرتي أدفانس" الذي يتزعّمه ميلي فقط 38 مقعداً من أصل 257 مقعداً في مجلس النواب، بينما حاز على 7 مقاعد من أصل 72 مقعداً في مجلس الشيوخ. وتالياً، يتعيّن عليه بناء تحالفات مع أحزاب يمين الوسط، كي يتمكّن من تمرير قراراته.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل يشكّل انتخاب ميلي انقلاباً في سياسة الأرجنتين ومؤشّراً لحقبة من الرؤساء المنتمين إلى أقصى اليمين المتطرّف في أميركا اللاتينية؟
وعلى رغم أنّ ميلي من المعجبين بالرئيس البرازيلي السابق الشعبوي جايير بولسونارو وشكّك في انتخاب دا سيلفا العام الماضي، فإنّ الرئيس البرازيلي كان من أوّل المهنئين لميلي معتبراً أنّ "أملاً جديداً يشرق" على الأرجنتين. ذلك لا يخفي أنّ ثمة قلقاً يساور دولاً مثل البرازيل والمكسيك وكولومبيا وفنزويلا، من أن يشكّل انتخاب ميلي عودة إلى الديكتاتورية، بعدما كانت المنطقة شهدت صعوداً لأحزاب تنتمي إلى التيارات اليسارية. والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو اتّهم ميلي بالسعي إلى إحياء "مشروع" الديكتاتوريات التي قامت في سبعينات القرن الماضي في كلٍ من الأرجنتين وتشيلي والأورغواي.
وخارج أميركا اللاتينية، حذّرت الصين من "خطأ فادح" في حال مضى ميلي في قطع علاقاته التجارية مع الصين والبرازيل، بحسب ما تقترح ديانا موندينو كبيرة مستشاري ميلي والمرشحة لتولي منصب وزيرة الخارجية في الحكومة الجديدة. والصين هي ثاني شريك تجاري للأرجنتين وأكبر سوق لتصدير منتجاتها الزراعية.
يمكن القول أنّ اليأس من الوضع الاقتصادي المزري بلغ بالأرجنتينيين مبلغاً دفعهم إلى التعلّق بـ"فلسفة" ميلي الاقتصادية "الخلاصية"، التي وعدت النّاس نظريّاً بأنّ ثمة أملاً في انتشال البلاد من السقوط المحتّم في هاوية لا قعر لها.