نفوذ وقوّة الولايات المتحدة لا زالا يلوحان بوضوح في أقطاب دول العالم أجمع، لا سيّما في منطقة الشرق الأوسط، غير أنّ دعمها اللامحدود لإسرائيل جعل مصداقيتها على المحكّ، وأضرّ بمكانتها العالمية بشكل واسع...

ما قبل السّابع من تشرين لن يكون كما بعده، أقلّه بالنّسبة لواشنطن. ومرّة جديدة تعود معضلة القضيّة الفلسطينية إلى الواجهة بعد أن أصبح التوصّل إلى اتفاق سعودي - إسرائيلي شبه مستحيل. هذا وجاء هجوم كتائب القسّام، مع ما تبعه من ردّ فعل عسكري إجرامي من الجانب الإسرائيلي، ليقلب مخطّط الولايات المتحدة الأميركية رأساً على عَقِب والمرتكز أساساً على تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية، لتتفرّغ إلى مواجهة النّفوذ الصيني الآخذ في الاتّساع إقليمياً ودولياً.

في التفاصيل، وفي أولى ساعات فجر السابع من تشرين الأول 2023، أعلن قائد كتائب القسّام بدء عملية "طوفان الأقصى" ردّاً على الانتهاكات الإسرائيلية. فكان هجوم صاروخي واسع النطاق ترافق مع اقتحام بَرّي على غلاف غزّة، ما أسفر عن اختراق الجدار الحدودي عالي التقنية واحتجاز أكثر من 240 رهينة. الأمر الذي جعل منطقة الشرق الأوسط على فوهة بركان يمكن أن ينفجر في أيّ لحظة.

ولأنّ الدعم الإيراني الواضح فسّر جهوزية حماس وقدراتها العسكرية، فقد عكس أيضاً قدرات إيران العسكرية عامّة والإقليمية خاصةً، رغم أنّ طهران لا تحبّذ إطلاقاً دعم صراعات جديدة واسعة النّطاق، ضمانة لمصالحها كدولة إقليمية أساسية.  

من جهتها، كانت الولايات المتّحدة الأميركية قد توصلت إلى تفاهم ضمني مع إيران بشأن فرملة برنامجها النووي، مقابل الإفراج استثنائيا عن 6 مليارات دولار من أموال طهران المجمّدة في كوريا الجنوبية. بالتزامن مع ذلك، عملت واشنطن على إبرام اتفاقية دفاعية مشتركة مع الرياض، الأمر الذي كان سيسهّل موافقة المملكة العربية السعودية على تحقيق تقارب دبلوماسي مع إسرائيل، تمهيداً للوصول لاحقاً إلى مرحلة تطبيع العلاقات معها على غرار بعض الدول العربية الأخرى.

تطبيعات توالت تباعاً دون حصول الفلسطينيين على أيّ تنازل من جهة الحكومة الإسرائيلية التي، على عكس ذلك، أمعنت في حماية المتديّنين اليهود الذين قاموا باقتحام ساحات المسجد الأقصى، وتهديم المنازل وتهجير الفلسطينيين من أجل توسعة مستوطناتها في الضفّة الغربية. فكيف ستتمكّن واشنطن من إنجاح مساعي الاستقرار الذي كانت تبغي تحقيقه في الشرق الأوسط بعد هذا "الطوفان"؟

على الولايات المتحدة الأميركية صياغة استراتيجية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط


واشنطن تحت المجهر

ممّا لا شك فيه أنّ نفوذ وقوّة الولايات المتحدة لا زالا يلوحان بوضوح في أقطاب دول العالم أجمع، لا سيّما في منطقة الشرق الأوسط، غير أنّ دعمها اللامحدود لإسرائيل جعل مصداقيتها على المحكّ، وأضرّ بمكانتها العالمية بشكل واسع. وما "قلب السّحر على الساحر" هو رفع الغطاء عن ادّعاء إسرائيل بالدفاع عن النّفس، ليتبيّن أن ما خفي تحته ليس سوى مخطّط مسبق التصوّر والتصميم لعقاب جماعي إجرامي وحشي، والدليل على ذلك هو سقوط ما يزيد عن 13 ألف قتيل فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ.

مشهد يحتّم على الولايات المتحدة الأميركية صياغة استراتيجية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط. استراتيجية ستتعارض حتماً مع الحقائق والوقائع التي تجاهلتها منذ فترة طويلة. فهي (أي واشنطن) لم تعد قادرة على إهمال القضية الفلسطينية، ما يدفعها، في حال أرادت إحلال السلام في المنطقة، إلى تحقيق ما يلي:

- منح الأفضلية المطلقة إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة قابلة للحياة، وذلك قبل استكمال ومتابعة مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية.

- التعاون اللامحدود واللامشروط مع المملكة العربية السعودية. فالأخيرة قادرة على استخدام نفوذها الموسّع من أجل المساعدة في إحياء المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، كما بإمكانها المساعدة للتوصّل إلى اتفاق نووي مع إيران، ناهيك بما يمكن للرياض أن تقدّمه لواشنطن من أجل إنشاء ممرّ اقتصادي عبر الشرق الأوسط. هذا الممرّ الذي تحتاجه الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق التوازن في المواجهة الاقتصادية مع الصين، علماً أنّها كانت قد أعلنت سابقاً عن مخطط لإنشاء ممر تجاري ضخم يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط بالرغم من العقبات الكثيرة التي تعرقل تنفيذه.  

- التعامل مع إيران كقوة متنامية باستطاعتها زعزعة استقرار المنطقة، وإبرام اتفاق جديد معها.

صفقة لن تكون واضحة ومباشرة على خلاف سابقاتها التي كانت تتفاوض بشأنها الولايات المتحدة قبل السابع من تشرين. فهي حكماً لن تبدأ بالتطبيع السعودي - الإسرائيلي ولن تنتهي بالتحالف العربي - الإسرائيلي ضدّ إيران. لكن من شبه المؤكّد أنّ المملكة العربية السعودية ستعمل مع إيران وتركيا (وسيطَي القوّة الرئيسيَين في العالم العربي)، وكذلك مع إسرائيل عبر الولايات المتحدة الأميريكية من أجل التوصّل إلى إطار واسع لعملية سلام إسرائيلية - فلسطينية بهدف إيجاد حلّ سلمي. بعدها ستسعى المملكة العربية السعودية وشركاؤها لبناء إطار شامل للأمن الإقليمي، على أن يتضمن هذا الإطار أسساً يُتّفق عليها على نطاق واسع من قِبل جميع الأطراف.

إنّ اتفاقية كهذه هي وحدها القادرة على ضمان السّلام الدّائم مع إسرائيل واحتواء حرب الظلّ بينها وبين إيران. لكن أيّاً كان مضمونها، فهي لن تكون قابلة للتحقيق والنجاح إن لم تقترن بصحّة التنفيذ وحسن النوايا. فهل ستنجح صفقة كهذه في خفض التوتّرات الإقليمية تحضيراً لرسم خطة طريق لإرساء السلام الدائم؟