فرض اتّساع النّفوذ الصيني المتنامي في العالم منذ بداية العقد الأول من القرن الجاري، تحدّياً كبيراً بالنّسبة للولايات المتحدة.
يطوي لقاء القمّة بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا على هامش قمّة دول منتدى آسيا-المحيط الهادئ "آبيك"، أشهراً من التوتّر الذي هوى بالعلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم إلى مستوى لم تشهده منذ التطبيع في سبعينات القرن الماضي.
ليس بالضرورة أن تخرج القمّة بحلول لكمٍ هائلٍ من الخلافات المتراكمة بين الولايات المتحدة والصّين، تبدأ من أشباه الموصلات والذكاء الإصطناعي وهواوي وتيك توك و"الحرب التجارية" والاحتباس الحراري، مروراً بالتوتّرات حول تايوان ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي، ولا تنتهي بأزمات دولية أخرى وصراعات ساخنة من أوكرانيا إلى غزة.
الصّين، مصنّفة في استراتيجية الأمن القومي للبيت الأبيض بأنّها "التحدّي الاستراتيجي الأكبر" للولايات المتحدة في السنوات المقبلة، أي قبل روسيا. هذا، لا يلغي مفارقة أنّ الترابط الاقتصادي بين أميركا والصين، يفرض على كلتيهما عدم الذهاب في "التنافس الشرس" إلى حدّ القطيعة الكاملة. وهذا حال، معاكس لما كان سائداً بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة.
الولايات المتحدة والصين تخوضان "حرباً باردة" من نوع آخر. في 18 تشرين الأول، احتفل الرئيس شي جينبينغ بالذكرى العاشرة لإطلاق "مبادرة الحزام والطريق" الصينية في حضور ممثلين عن 110 بلدان ومنظّمات دولية. المبادرة هي القوّة الناعمة التي اعتمدها شي جينبينغ لبناء النفوذ العالمي للصين بضخّ استثمارات تفوق تريليون دولار لبناء بنى تحتية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. يشمل ذلك بناء موانئ ومطارات وجسور وخطوط للسكك الحديديّة وممرّات اقتصادية تربط بين 60 بلداً، فضلاً عن استثمارات في قطاعات النّفط والغاز والطاقة الكهربائية والإنترنت.
فرض اتّساع النّفوذ الصيني المتنامي في العالم منذ بداية العقد الأول من القرن الجاري، تحدّياً كبيراً بالنّسبة للولايات المتحدة. ومنذ رئاسة باراك أوباما، بدأت واشنطن تسلك طريق حشد الإمكانات في آسيا بهدف احتواء الصّعود الصيني، ليس اقتصادياً فحسب وإنّما عسكرياً أيضاً. هناك مثلاً خمس حاملات طائرات أميركية من أصل 11 تبحر في المحيطين الهادئ والهندي، عدا عن نشر منظومات صواريخ "باتريوت" و"ثاد" في المنطقة.
زادت أميركا من وجودها العسكري في آسيا على حساب الشرق الأوسط وأوروبا، قبل انفجار الحرب الأوكرانية في 2022 والحرب في غزة في 2023. وفي ولاية دونالد ترامب نشبت "الحرب التجارية" بعد فرض تعريفات جمركية عالية على الواردات من الصين، وهي أصلاً واردات تساهم فيها شركات أميركية عاملة في الصين.
وحده بايدن، شذّ عن قاعدة أسلافه، وأعلن أنّ الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا هاجمتها الصين
أمّا في ولاية بايدن، فاتّخذت الأمور منحى خطيراً، مع سلسلة من الاتّفاقات العسكرية التي أبرمتها واشنطن مع دول آسيوية تتشارك في القلق من الصعود الصيني، وأعيدت الحياة إلى تحالف "كواد" الذي يضمّ الولايات المتحدة والهند واليابان وأوستراليا، وأبرم اتّفاق "أوكوس" الأمني بين أميركا وبريطانيا وأوستراليا. وأوّل مهمّة لحاملة الطائرات البريطانية "أليزابيت الثانية" التي دشّنت العام الماضي، كانت التوجّه إلى المحيط الهادئ.
وكان لتايوان قصّة مختلفة وأكثر خطورة. منذ التطبيع الأميركي-الصيني في السبعينات، شكّلت الجزيرة ذات الحكم الذاتي محوراً رئيسياً في العلاقات بين واشنطن وبكين. ومنذ رئاسة جيمي كارتر، تعهد الرؤساء الأميركيون سياسة "صين واحدة"، التي تقوم على سحب الاعتراف بتايوان دولة مستقلة، مع اعتماد استراتيجية "الغموض" في ما يتعلق بالموقف الأميركي في حال هاجمت الصين الجزيرة.
وحده بايدن، شذّ عن قاعدة أسلافه، وأعلن أنّ الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا هاجمتها الصين. كان هذا في التعريف الصيني تخلّياً أميركياً عن مبدأ "صين واحدة". وشكّل محطّة مفصلية في العلاقات بين الدولتين الكبريين. وأمعنت رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي في هدم ما بناه هنري كيسنجر، بزيارتها لتايوان في آب 2022، ممّا حفّز الصّين على الردّ بمناورات غير مسبوقة حول الجزيرة. وتدهورت العلاقات أكثر مع اكتشاف أميركا المنطاد الصيني فوق ولاية مونتانا في 28 كانون الثاني من العام الجاري، وما تلاه من جدل حاد. وتعقّد الموقف أكثر مع زيارة الرئيسة التايوانية تساي إن-وين لمكتبة رونالد ريغن في كاليفورنيا في نيسان ولقائها رئيس مجلس النواب الأميركي السابق الجمهوري كيفن ماكارثي.
عند هذا الحد قاربت العلاقات نقطة الصفر، وبدأت تكتسب أبعاداً خطيرة مع تزايد النشاط العسكري لكلّ من الولايات المتحدة والصّين قرب تايوان وفي بحر الصّين الجنوبي. وترافق كلّ ذلك مع قرار خطير اتّخذته بكين بقطع الاتصالات العسكرية مع واشنطن.
واستمرّ التوتّر بالتصاعد في الأشهر التي تلت حادث المنطاد، إلى أن أتت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في حزيران الماضي لبكين، وهي الأولى لوزير خارجية أميركي للصين منذ خمسة أعوام. شكّلت الزيارة كسراً للجليد في العلاقات، وأتت بعدها زيارة وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين في تموز.
ساهمت هاتان الزيارتان في إعادة التواصل بين أميركا والصين لكن من دون أن تحدثا اختراقاً كبيراً في ترميم العلاقات. والدّليل أنّ بايدن تحت ضغوط من "صقور" الكونغرس فرض بعدها قيوداً على الشركات الأميركية الراغبة في الاستثمار في مجال التكنولوجيا عالية الدقّة في الصين.
وردّ الرئيس الصيني على الخطوة الأميركية بعدم حضور قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول الفائت، كي لا يلتقي الرئيس الأميركي. وهذا الأخير لم يفوّت فرصة استفزاز الصين بإعلانه على هامش القمّة عن "ممر اقتصادي كبير" يربط الهند بدول الخليج ومنها إلى إسرائيل ومن ثم إلى أوروبا بتكلفة عشرات المليارات من الدولارات، وذلك بهدف لا يخفى وهو مواجهة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية. وقبل ذلك بنحو عام تبنّت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى مبادرة أميركية لضخّ عشرات مليارات الدولارات في دول إفريقية، من أجل قطع الطريق على الاستثمارات الصينية في القارّة السمراء. والمسؤولون الأميركيون يداومون على تذكير الدول الإفريقية بالمخاطر التي ستترتّب على هذه الدّول نتيجة القروض الصينية.
"الممر الاقتصادي الكبير" محاولة واضحة لاحتواء التمدّد الصيني إلى الشرق الأوسط الذي كانت أبرز معالمه، نجاح الديبلوماسية الصينية في 10 أذار الماضي في إعادة تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران. وقبلها بأشهر زار شي الرياض ووقّع اتفاقيات شراكة اقتصادية استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وتعمل الصين على بناء ميناء في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتقدّمت بعرض لبناء مفاعل نووي في السعودية.
هذا التحوّل الخليجي نحو الصين لم يرق لأميركا التي ردّت عليه بـ"الممر الاقتصادي الكبير"، ومن ثم اتّخذت خطوات كبيرة في اتجاه تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، في مقابل تلبية طلبات الرياض في إبرام اتّفاق أمني وإنشاء مفاعل نووي للطاقة السلمية. ثم أتى انفجار غزة ليرجئ كلّ هذا.
في سان فرانسيسكو اليوم يلتقي بايدن وشي وجهاً لوجه، في محاولة للتوصّل إلى إعادة تنظيم العلاقات الثنائية، وفي مقدّمها استئناف الاتّصالات العسكرية في وضع دولي متأزم، من أوكرانيا إلى غزة.
وللصين مقاربة مختلفة عن تلك التي تتبنّاها أميركا حيال هذين الصراعين. لكن واشنطن رفضت المبادرة الصينية ذات النقاط الـ12 لحلّ النزاع الأوكراني سلمياً. كما أنّ أميركا ترفض وقفاً لإطلاق النار في غزة وبعقد مؤتمر دولي يفضي إلى حلّ الدولتين.
وروسيا، نقطة خلاف جوهرية، مع التقارب المتزايد بين بكين موسكو وارتفاع التبادل التجاري بين البلدين إلى 200 مليار دولار هذا العام، فضلاً عن تشكيل الصين بديلاً لروسيا عن السّوق الأوروبية للطاقة. وشحنات النفط والغاز الروسيين التي كانت تصدر إلى الاتّحاد الأوروبي، تصبّ الآن في موانئ الصين والهند.
وعلى رغم الخلافات في النظرة السياسية إلى مشاكل العالم ووقوف الصين مدافعاً عن الجنوب العالمي، فإنّ بايدن يعي أهمية عدم فقدان العلاقات الاقتصادية مع العملاق الصيني الذي تصل المبادلات التجارية معه إلى 700 مليار دولار سنوياً.
وطالما أنّ "فكّ الارتباط مستحيل" بين الاقتصادين الأميركي والصّين، بحسب جانيت يلين، فإنّ البلدين محكومان بالنّظر إلى واقعية للعلاقات وتناسي التقسيم الإيديولوجي الذي يقيمه بايدن للعالم بين أنظمة ديموقراطية" وأخرى "استبدادية".
والسؤال الأهمّ، هل يقبل بايدن عرض "التعاون" الذي تقدّم به شي من أجل مواجهة التحديات الدولية التي تشكّل خطراً على الجميع وليس على دولة بعينها صغرت أم كبرت؟