السّؤال عماّ بعد غزة، ويتركّز حول مستقبل هذه البقعة الجغرافية من الكرة الأرضية، التي لا تنطبق عليها المعايير الإنسانية ولا العدالة الدولية ولا قوانين وقرارات الأمم المتحدة التي تسري على باقي شعوب الأرض، ربّما.
فيما كانت الدماء لا تزال تُسفك، وصوت بكاء الأطفال من ألم أو جوع، وصراخ الأمّهات المفجوعات بولدٍ أو زوج أو أب أو أخ، وعلى وقع تواصل عمليات البحث عن الأشلاء والجثامين تحت الأنقاض في الوقت المستقطع بين مجزرة ومجزرة، كان العالم الخارجي يرسم لغزة مستقبلها، وهو مستقبل شُطبت منه عائلات كثيرة وكثير من الأبنية أيضاً والمعالم. هكذا يصبح شقّ الطرقات الواسعة بسهولة شقّ الصفّ العربي المنقسم حول دعم حماس أو دعم الفلسطينيين العزّل أو الانتظار على حافّة النهر. كثيرة هي الأنظمة التي كان يمكن وصف مواقفها بصمت القبور لولا أنّ قبور غزّة كانت تصرخ بأصوات أعلى من صوت الغارات والقصف والقذائف على أنواعها.
طُرِح السّؤال عمّا بعد غزّة، لم يكن عمّا بعد حماس، لأنّ هدف القضاء على حماس أبعد ممّا يستطيع أن يطاله الجيش الإسرائيلي. وسبق لإسرائيل أن أعلنته في نهاية العام 2008 في "عملية الرصاص المسكوب" والتي استمرت 23 يوماً وحصدت نحو 1400 ضحية 400 منهم من الأطفال إضافة إلى آلاف الجرحى. وفي العام 2012 معركة "عامود السحاب" استمرّت 8 أيام وقتل الجيش الإسرائيلي خلالها 180 فلسطينياً بينهم 42 طفلاً. وفي العام 2014 وخلال عملية "الجرف الصامد" التي استمرت 51 يوماً قتلت إسرائيل أكثر من 2300 فلسطيني. وفي معركة "صيحة الفجر" في العام 2019 والتي استمرت لبضعة أيام قتلت إسرائيل نحو 40 فلسطينياً. وفي العام 2021 كانت معركة "حارس الأسوار" والتي أسفرت عن قتل إسرائيل لنحو 250 فلسطينياً. وفي العام 2022 كانت عملية "الفجر الصادق" التي قتلت إسرائيل خلالها نحو 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال. هذه الحروب والمعارك التي استهدفت غزة خلال السنوات الأخيرة، فلو عدنا في التاريخ لما استطعنا تعداد كل ما ارتكبته إسرائيل بحق هذه الأرض وهذا الشعب.
وبالعودة إلى السّؤال عماّ بعد غزة، والذي يتركّز حول مستقبل هذه البقعة الجغرافية من الكرة الأرضية، التي لا تنطبق عليها المعايير الإنسانية ولا العدالة الدولية ولا قوانين وقرارات الأمم المتحدة التي تسري على باقي شعوب الأرض، ربّما. بين إدارة القطاع والسلطة أو السلطات التي ستتبع لها هذه الإدارة وبين وظيفة غزة ودورها. لا رأي للشعوب هنا. الديمقراطية وشرعية التمثيل الشعبي رفاهية لا يملكها من لا يملك أي حقّ من الحقوق التي تعتبرها بقية شعوب الأرض من البديهيات. جاء العم سام شخصياً بحاملات طائراته وغوّاصاته ومسؤوليه من رأس الهرم إلى أسفله، لم يكن بحاجة إلى وكيله الإسرائيلي، وقرّر عن أهل غزة واختار لهم مصيرهم، وإلّا ...
تقول الروايات إنّه مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا، ويقول رواة آخرون إنّها قناة بن غوريون، وما بين الممر والقناة تقع غزة وتأثير غزة، وقدرة مقلاع داود الفلسطيني على الإضرار بالعملاق جليات الإسرائيلي وترسانته الحربية وقذائفه ودباباته وطائراته والجسر الجوي الداعم من حلفائه. تقع غزة هناك أو تنهض الإنسانية وتنتفض لحقّ أبناء الأرض بأرضهم وتاريخهم وحضارتهم. لا يتطلّب الأمر من كلّ تلك الدول سوى العمل على تحقيق حلّ على أساس الدّولتين. وهذا يتطلب وقف الحركة الاستيطانية التي كانت موضع استنكار ورفض الإدارة الأميركية نفسها فيما كانت إسرائيل وحكوماتها لا تقيم وزناً لكلّ الاعتراضات والمناشدات. وكانت تستمّر بخرق كلّ القوانين الدولية في هذا الإطار ولم يكن من أحد في مصدر قرار يجرؤ على وقفها.
إذاً هي عملية إزالة كلّ ما يعترض مشروعاً ماليّاً ضخماً لا يقيم وزناً لحياة إنسان ولا حتّى الآلاف من الناس، فكيف حين يتعلّق الموضوع بأهل غزّة المسجونين منذ عشرات السنين ولا من يسأل عنهم، ولا من يستنكر جدار الفصل العنصري المنصوب حولهم، ولا الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش والإذلال والقهر والاعتقالات التي لم تتوقف يوماً. وكلّ هذا كان يحصل قبل 7 تشرين الأول وعلى مدى سنوات طويلة معارك وحروب متعاقبة. ولم يكن يصل للعالم من أخبار هذه البقعة الجغرافية سوى صورة السياحة الدينية في إسرائيل أو دعايات الهجرة بهدف الاستيطان مع حوافز تشجيعية هائلة.
حين قصفت إسرائيل مستشفى المعمداني موقعة مئات الضّحايا، كانت تخشى ردود فعل من هنا أو هناك لهذا حاولت التنصّل من هذا الأمر، وإيهام الرّأي العام بأنّ ما حصل ليس من فعلها. ولكنّها فوجئت بحجم اللامبالاة أو بأقصى حدّ بعض البيانات والاستنكارات الفارغة، ما دفعها إلى استهداف باقي المستشفيات ومن دون حتّى محاولة تبرير أو استرضاء لأحد. تتعامل إسرائيل مع قطاع غزة وفق ما سمح لها به المجتمع الدولي. فالحديث عن حقّها بالدفاع عن نفسها مع تلميح خجول إلى ضرورة تجنّب استهداف المدنيين خلّف حتى اللحظة ما يقارب الـ 11 ألف ضحية، قرابة نصفهم من الأطفال، وآلاف الجرحى والمفقودين. يعلنها القادة العسكريون إنهم يسعون لتغيير وجه المنطقة ومعالمها. عمليات القصف الممنهج والتدمير وحجم الخائر المستخدمة تكاد تحفر أكثر من ممر مائي يغرق اليوم بالدماء.
لمن فاتته متابعة ما جرى من مجازر وجرائم مباشرة على الهواء، لا بأس لا نريد أن نقلق راحتك يمكنك غداً متابعة رواية ما جرى بطريقة الخداع السينمائي لمراسلي كبرى المؤسسات الإعلامية، أو يمكنك العودة إلى متابعة حياتك ومن دون ضرر التعرّض لكل مشاهد العنف هذه، وحين ترى ممثلي هذه الدولة التي ارتكبت كل هذه المجازر يمكنك أن تعود إلى خطاب تسامح الأديان ودعوات السلام، فما جرى في غزة حدث عابر، يمكن محوه من الذاكرة بسهولة، هذا إن مرّ بخاطركم.
ما بعد بعد غزة، نظرة جديدة إلى الكائن الإسرائيلي المتعاطف مع الكيان الصهيوني
ولكن ما بعد بعد غزة لن يكون كما قبلها. غزّة كانت عبارة عن تجمّع لأبناء المدينة ولأناس تم اقتلاعهم من أرضهم في مناطق أخرى من فلسطين. كانوا لاجئين في أرضهم. كانوا مضطرين للعمل لدى محتلّهم، الذي يملك التحكّم بالكهرباء والماء والغذاء وحتّى الهواء. رغم أنّ المجتمع الدولي كان يدّعي أنّه يعمل لتكون هذه الأرض ضمن الدولة الفلسطينية. لا بأس إن اقتطعت إسرائيل أجزاء كبيرة منها فهي تحتاج للإتيان باليهود من جنسيات مختلفة لإسكانهم ها هنا. قلق الأمين العام للأمم المتحدة الحالي كما السابق وإن اشتدّ في بعض المرّات القليلة، إلّا أنّه غير قابل للترجمة بأكثر من بيان خجول. الضفة الغربية كما غزة اليوم تتعرض لمداهمات وحملات اعتقال وحّتى قتل وتجريف وتدمير. لا بأس سنعبّر عن عدم رضانا ببيانات شديدة اللهجة تصدر في الإعلام من دون تعكير صفو العلاقات الثنائية، ولا الاتفاقيات المربحة لأصحاب السلطة ولو على حساب الإنسانية جمعاء.
ما بعد بعد غزة، نظرة جديدة إلى الكائن الإسرائيلي المتعاطف مع الكيان الصهيوني. نظرة ليست عربية فقط هذه المرة، هي نظرة غربية تقارن بين المحرقة النازية والمجازر المرتكبة في غزة. هو تاريخ استحضره الغربيون ليعيدوا قراءة المشهد من جديد. الغرب بعد غزة يتعرّف اليوم على فلسطين. ولمّا كانت الديمقراطية هي في صوت الشعب، فإنّ مشاهد الشعوب الغربية واحتجاجاتهم رغم التعتيم والمنع والممارسات القمعية تشي بأنّنا مقبلون على واقع جديد.
في مقابلة متلفزة سأل إيلون ماسك مالك منصة أكس (تويتر سابقاً): "حين تنتهي من حرب الإبادة الجماعية هذه، والتي يجب ألّا تكون مقبولة من أحد، لا بد أنك ستترك العديد من الأشخاص على قيد الحياة الذين سيزداد كرههم لإسرائيل. مقابل كل عنصر قتلته من حماس، كم عنصر أوجدت؟ فإذا كنت قد أوجدت أكثر مما قتلت فهذا ليس بنجاح. فإذا قتلت طفل أحدهم في غزة فأنت صنعت عنصراً في حماس. شخص مستعد للموت فقط لكي يقتل إسرائيلياً".
ويبقى التأكيد مجدّداً أنّ ما حصل في غزة لن يبقى في غزة.