لو قُدّر لعملية طوفان الأقصى حصولها قبل أشهر من اليوم، مع ما تستتبعه من ردّ عنيف يسوّي غزة بالأرض، ويفرض أكبر عملية ترانسفير، لفكّرنا بأنّ أحد الأهداف الأساسية "المبيّتة" للعدوان هو إزالة القطاع بسكّانه ومبانيه، تمهيداً لجرّ "قناة بن غوريون"

أحبط توقيت الحرب على غزّة، المصادف بعد أقلّ من شهر على اختتام قمّة العشرين اجتماعاتها في نيودلهي، كلّ النظريات حول إحياء "قناة بن غوريون". فالقناة الحلم التي ظلّت حتّى الأمس القريب تدغدغ شعور الإسرائيليين بامتلاكهم منفذاً رديفاً للسويس على دلتا البحر الحمر، طواها الزّمن ولو مؤقّتاً. وقد أوجدت قمّة نيودلهي وفي خضم تحقيق قادتها لمصالح بلادهم، أوجدوا لإسرائيل دوراً اقتصادياً محورياً يتخطّى بأشواط امتلاكها قناة مباشرة إلى البحر المتوسط، وبفعالية أعلى وكلفة أقل. ولكن لا يجب إغفال إنّ مشاريع إسرائيل أيّا تكن فهي تتطلّب القضاء على حركات المقاومة في غزة وفلسطين.

لو قُدّر لعملية طوفان الأقصى حصولها قبل أشهر من اليوم، مع ما تستتبعه من ردّ عنيف يسوّي غزة بالأرض، ويفرض أكبر عملية ترانسفير، لفكّرنا بأنّ أحد الأهداف الأساسية "المبيّتة" للعدوان هو إزالة القطاع بسكّانه ومبانيه، تمهيداً لجرّ "قناة بن غوريون". فبحسب المخطّط القديم – الجديد تبدأ القناة من الطّرف الجنوبي عند خليج العقبة على البحر الأحمر، وتقطع مستعمرة إيلات وتكمل على الحدود الإسرائيلية والأردنية بين جبال النقب، لتنحرف غرباً قبل حوض البحر الميت، وتتّجه شمالًا مرّة أخرى لتصبّ في البحر الأبيض المتوسط على بعد كيلومترات قليلة من شمال قطاع غزة. وتذهب بعض النظريات أبعد من ذلك مفترضة أنّ تمرير القناة بين وسط قطاع غزة وشماله يختصر من مسافة القناة الطويلة جداً، أساساً، (حوالي 266 كلم) ويخفّف التكلفة الباهظة التي تتجاوز الـ 55 مليار دولار بحسب الدراسات الأولية، ويختصر الوقت. وفي الحالتين يشكّل قطاع غزّة "حجر عثرة" في وجه المشروع الذي لطالما تحيّنت إسرائيل الفرصة لسحق القطاع في سبيله. وهل من توقيت أفضل من تنفيذ المهمة اليوم، في ظلّ احتدام الصّراع على الممرّات المائية حول العالم وازدياد دورها في نقل السّلع عموماً والنفط خصوصاً؟

قناة بديلة للسويس!

أكثر من ذلك فإنّ القناة الحلم بالنسبة للإسرائيليين، ما هي إلّا البديل الآمن للقادة الغربيين عن قناة السويس الذين يملكون تاريخاً حافلاً من الصراعات معها وعليها، ويعجزون عن الاستغناء عنها. فهذه الأخيرة التي تبدأ من الجزء الشمالي لدلتا البحر الأحمر، لوّعت الغربيين، وتحديداً منذ النّصف الثاني من القرن العاشرين. ففي تموز 1956 أمّم الرئيس المصري جمال عبد الناصر القناة، ما حفّز كلّ من بريطانيا وفرنسا بمشاركة إسرائيل الحرب على مصر ضمن العدوان الثلاثي. وكان من نتيجة الحرب تعطّل الملاحة في القناة لمدة خمسة أشهر لغاية مطلع العام 1957. أمّا التعطل الأكبر للقناة، وإغلاقها أمام الملاحة العالمية فكان في حزيران من العام 1967 جرّاء الحرب العربية مع إسرائيل، المعروفة بـ "النكسة". حيث استمرّ الإغلاق لمدّة 8 سنوات، منذ 5 حزيران 1967 وحتّى 4 حزيران 1975، إلى حين قام الرئيس المصري أنو السادات بإعادة افتتاحها، بعد فضّ الاشتباك بين مصر وإسرائيل ووقف إطلاق النار.

هذا من الناحية العسكرية أو الجيو- سياسية. أمّا من الناحية الاقتصادية، فإنّ الدول الغربية تشتكي من زيادة رسوم العبور لجميع أنواع السفن بنسبة 15 في المئة خلال عام 2023، وتخشى على المستوى اللوجستي من تعطّل القناة بسبب جنوح السفن وعوامل الطقس... وغيرها من الأسباب. ما يرفع كلفة الشحن ويلحق بالغ الأذى بالتجارة العالمية والشركات. ويكفي أن نذكر حادثة جنوح سفينة "افيرغيفن" العام الماضي وتعطل القناة لنستدلّ على حجم الخسائر. فخلال ستّة أيام فقط من تعطّل القناة تقلّص نموّ التجارة العالمي بنسبة 0.4 في المئة، بحسب رئيس الاكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري د. إسماعيل عبد الغفار فرج. وزادت الأسعار بنسبة تخطّت 10 في المئة على كلّ حاوية. وتعطّل تسليم أكثر من 9 مليارات دولار من البضائع كلّ يوم، وهو ما يعادل 400 مليون دولار من التجارة في الساعة. وقدّرت الخسائر التّجارية بـ 54 مليار دولار. وتحمّل قطاع التأمين خسائر بـ 31 مليار دولار. هذه النتائج ترتّبت عن وقف القناة لمدة لستة أيام فقط، فكيف إذا استمرّت أشهر أو سنوات؟ وقد تعطّلت القناة بالفعل لأيام أو أشهر حوالي التسع مرّات، كما تفيد البيانات.

ممرّ برّي يربط الشرق الأقصى بالغرب من خلال الشرق الأوسط

على الرّغم من أهمّية وجود قناة بالنسبة للإسرائيليين عموماً، والعالم الغربي خصوصاً، فإنّ "قناة بن غوريون طويت صفحتها ولو مؤقّتاً"، بحسب الباحث الاقتصادي والمتخصّص في شؤون الطاقة، عامر الشوبكي، "ليس بسبب عدم جدواها بالمقارنة مع كلفتها، إنّما نظراً للتطوّر الذي حصل عقب قمة مجموعة العشرين G20 التي عقدت في نيودلهي في أيلول الماضي". فالقمّة كشفت عن اتفاق تاريخي برعاية أميركية يقضي بوصل الهند بأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، وعبر إسرائيل تحديداً. ويحوي هذا الممرّ طريقاً واسعاً للمركبات باتجاهين، وكلّ اتجاه يتجه لستة مسارب. وسكك لقطارات الشحن والركاب، وخطوط غاز ونفط وهيدروجين، وشبكة ألياف ضوئية لنظام المعلوماتية والأنترنيت. ويعتبر هذا الممرّ بحسب الشوبكي "جزءاً من مشروع غربي أميركي كبير لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي يعتقد الغرب أنّها تهدف للسيطرة على اقتصاد العالم وتساهم ببسط نفوذ الصين". وعليه فإنّ الغرب يواجه المبادرة بكلّ ما أوتي من قوّة ونفوذ وعلاقات. ولإتمام هذا الممر فائق الأهمية يجب إزالة كلّ العوائق والأخطار ومنها ما يمكن أن تمثله حركات المقاومة في غزة. خصوصا أنّ الممر يمرّ من جنوب البحر الميت وعبر الأراضي المحتلّة في العام 1948 إلى البحر المتوسط في مسافة أبعد ما يكون عن غلاف غزة الحالي قرابة 25 كلم. الأمر الذي يستدعي أن يتمّ تأمين هذا الطريق. وعليه فإنّه من بين الأسباب الحقيقية للحرب على غزة ونية إفراغها من سكّانها، هي أهداف استراتيجية واقتصادية، ومنها لتأمين مشاريع مثل الممر الاقتصادي.

الممرّ الجديد على أهمّيته لا يلغي بحسب الكثير من الدراسات "حلم القناة"، حيث يذهب البعض بعيداً بإمكانية الحفر عبر التفجير النووي لتسريع وتخفيض الكلفة. وفي حال قدّر للمشروع أن يبصر النور، فهذا يعني تقاسم الموارد مناصفة مع قناة السويس وإضعاف دورها وتأثيرها في الاقتصاد والأحداث الجيو – سياسية.