يصعب التّصديق أنّ أميركا الحليف الأقرب إلى إسرائيل والحامي لها منذ التأسيس، غير قادرة على الضغط لوقف الإبادة الجماعية في غزّة...
مع توالي المشاهد الدامية من قطاع غزة على مدى أكثر من شهر بفعل شهية إسرائيلية مفتوحة على انتقام بلا حدود، ثمّة سؤال مطروح بإلحاح: هل فعلاً الولايات المتّحدة عاجزة عن إيقاف آلة القتل الإسرائيلية؟
يصعب التّصديق أنّ أميركا الحليف الأقرب إلى إسرائيل والحامي لها منذ التأسيس، غير قادرة على الضغط لوقف الإبادة الجماعية في غزّة. أو ربّما أنّ إدارة الرئيس جو بايدن ترى أنّ سقوط أكثر من عشرة آلاف فلسطيني وجرح أكثر من 25 ألفاً، ثلثاهما من الأطفال والنساء، وتدمير ثلث مساكن القطاع، لا تكفي بعد كي تقول لإسرائيل... كفى!
هذا الاتّجاه يعزّز فرضيّة التمييز الأميركي بين حياة الإسرائيليين وحياة الفلسطينيين...يبكي بايدن في سديروت ويستكثر هدنة إنسانية في غزة، ويقول إن غولدا مائير أوصته على أثر صدمة 1973 بأن "لا مكان للإسرائيليين كي يذهبوا إليه غير إسرائيل"، ولا يسأل لماذا لا تصحّ المقولة نفسها على الفلسطينيين الذين لا مكان يذهبون إليه... غير فلسطين.
هذا إلّا إذا كانت حياة الفلسطينيين لدى بايدن هي أقلّ قيمة من حياة الإسرائيليين.
والكيل بمكيالين هو من سمات الإدارات الأميركية المتعاقبة. ما يرونه في أوكرانيا مثلاً لا يصح ّعلى فلسطين. وهذا هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطارد بمذكرة اعتقال دولية أصدرتها المحكمة الجنائية في لاهاي، بتهمة الوقوف خلف نقل أطفال أوكرانيين من أوكرانيا إلى روسيا. ومع أنّ نقل الأطفال من بلد إلى آخر هو عمل مدان، فماذا يمكن أن يقال عن قتل آلاف الأطفال في غزة.
في أواخر نيسان 2022، اتّهمت أوكرانيا الجيش الروسي بارتكاب مجزرة في بوتشا القريبة من كييف راح ضحيّتها بحسب السرديّة الغربية 300 مدني. وسريعاً ما تحرّكت الولايات المتّحدة ومعها الاتّحاد الأوروبي إلى فرض موجة جديدة من العقوبات، وتحرّكت كلّ المنظّمات الحقوقية في العالم لتندّد، وتطالب بمحاكمة المسؤولين الروس بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لو كان فعلاً هذا هو المعيار، ماذا يمكن أن تسمّى الفظائع التي ترتكب في غزة منذ أكثر من شهر. أين منظّمات حقوق الإنسان لا تتحرّك ولا تتّهم أحداً... عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل.
النموذج في التعامل مع الفلسطينيين، كان عدم تجرّؤ الولايات المتحدة على تحقيق مستقلّ في جريمة قتل الجيش الإسرائيلي الصحافية شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة "الجزيرة" والتي كانت تحمل الجنسية الأميركية، في 11 أيار 2022 في جنين.
من يصمت على قتل شيرين، يصمت اليوم على إبادة ترتكب في غزة. ومن لم يعجبه من المسؤولين في وكالات الأمم المتحدة فليستقل، كما حدث مع رئيس مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك غريغ مخيبر.
ذنب غزة، إنّها تنتمي إلى الجنوب العالمي في التعريف الجيوسياسي، على عكس إسرائيل وأوكرانيا وسائر حلفاء الولايات المتحدة في العالم.
اختزل بايدن ذلك، عندما قال في الأيام الأولى للحرب، إنّ لإسرائيل "الحقّ في الدفاع عن النّفس...ونقطة على السطر". وبعد ذلك بات سقوط المدنيين الفلسطينيين تفصيلاً في حرب أوسع لديه تضم إلى "حماس"، إيران وروسيا والصين. وهو القائل في الخطاب الذي وجهه من المكتب البيضوي في 20 تشرين الأول، إنّ الولايات المتحدة لن تدع بوتين و"حماس" ينتصران.
فهو يرتاب في أنّ روسيا والصّين لهما مصلحة في إشغال الولايات المتحدة وصرف انتباهها عن المواجهة العالمية التي يخوضها مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في المحيطين الهاديء والهندي.
في المحصلة تغدو الحرب الدائرة حالياً في الشرق الأوسط، مسألة إشغال فقط. ولا يريد بايدن الإقرار بأنّ ترك الولايات المتحدة القضية الفلسطينية بلا حلّ منذ 75 عاماً، لها شأن بما يجري اليوم على أرض غزة وفي الضفة الغربية.
عند بايدن، إبتدأ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في 7 تشرين الأوّل الماضي فحسب. ما قبل هذا التاريخ، كان الفلسطينيون ينعمون بالسلام والازدهار ويعيشون في دولتهم المستقلة معزّزين مكرمين!!!
لا ضير إذا ما توقّف بايدن عند كلام الرئيس الأميركي سابقاً باراك أوباما السبت "إذا كنت تريد حلّ المشكلة، عليك أن تتقبل الحقيقة كاملة. عليك أن تعترف بأن لا أحد يداه نظيفتان، وأنّنا جميعاً متواطئون إلى حد ما".
وربما يكون الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من بين القلائل الذين لامسوا جوهر المأساة المتمادية، بقوله بجرأة إنّ على العالم أن يتنبّه إلى أنّ هجوم "حماس" "لم يأتِ من فراغ".