لأنّ للمواجهات ساحات أخرى غير الميدان كانت هناك جبهات متعددة منها الساحة الإعلامية...
تنشط في فترات الحروب العسكرية حروب من نوع آخر وعلى جبهات أخرى، إنّها الدعاية والترويج والتلاعب بالحقائق، إنّها "البروباغندا"، وهي مصطلحات تستخدم لتوصيف ما يحصل على جبهة الإعلام من معارك يشنّها طرفا النزاع في محاولة استقطاب كلّ منهما شريحة أوسع من الرأي العام.
إدوارد بيرنيز (عالِم الدّعاية، والإعلام الأول، وأبو العلاقات العامّة، الذي غيّر وجه التّاريخ، بترسيخ قواعد فكرة البروباغاندا الدعائيّة، أو الخداع الإعلامي) يتساءل: "لو أنّنا فهمنا آليات العقل الجماعي، ودوافعَه، أليس من الممكن السّيطرة على الجماهير، وإخضاعُهم لنسقٍ موحدٍ بحسب رغبتنا من دون أن يدركوا ذلك؟".
الحرب الإلكترونيّة
منذ انطلاق عمليّة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأوّل 2023، ومع انطلاق البروباغندا الاسرائيليّة الأميركيّة، المدافعة بشراسة عما سمّته "حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، والمُدينة لأفعال حركة حماس التي صنفتها بـ"الإرهابية" والشعب الفلسطيني التي وصّفته بـ"الحيوانات البشريّة والبرابرة"، مبرّرة قتلهم والتضييق عليهم. برزت حملة إعلاميّة مضادة لهذه البروباغندا المشيطنة للفلسطينيين، كان أبطالها أفراد ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي. وللمفارقة، فإنّ معظمهم استخدموا في حملاتهم اللغة الأجنبيّة والانكليزيّة على وجه الخصوص. أو على الأقلّ المحتوى الذي بدأ ينشر في البداية انطلق باللغة الاجنبيّة، في محاولة للتأثير على الرأي العام الغربي من خلال مخاطبته بلغته. وعلى عكس البروباغندا الإسرائيليّة الممنهجة، والمدروسة، والتي تعتمد على شبكة واسعة من المؤثرين، والمشاهير، وقادة الدول، ووسائل إعلامية عريقة، بدأت الدعاية المضادة للكذب الإسرائيلي بمبادرات فرديّة غير منظّمة، وعلى الرّغم من ذلك، تمكّنت من تحقيق انتشار واسع بين المواطنين حول العالم.
المقاومة بالغناء والتمثيل
لأنّ للمواجهات ساحات أخرى غير الميدان كانت هناك جبهات متعددة، على صعيد الجبهة الفنية، برزت على شكل أغنية أعدتها التيكتوكر إيمان عساكر، المصريّة الجنسيّة، تروي من خلالها قصّة وعد بلفور، واغتصاب اليهود الإسرائيليين لأرض فلسطين. بعنوان “There once was a land called Palestine” على ألحان الاغنية الشهيرة There once was a ship put to the sea. ولاقت هذه الأغنية رواجاً على جميع مواقع التواصل الاجتماعي حيث حصدت أكثر من 2.4 مليون مشاهدة على تيكتوك.
وتحت هاشتاغ حاربوهم إلكترونيا انتشرت فيديوهات لتيكتوكرز ينشدون أغان داعمة لفلسطين، ويحملون العلم الفلسطيني ويرسمونه على وجوههم.
وعلى غرار عساكر، قام محمد زين، بدوره أيضا بكتابة أغنية تروي احتلال الإسرائيليين لفلسطين، منتقدا فيديو نشرته جنديّة اسرائيليّة على تيكتوك، وحصد الفيديو الخاص به 9 ملايين مشاهدة. على ألحان أغنية Baby let me see it، والتي تعدّ من أكثر الأغاني رواجاً اليوم.
كما أعدّ العديد من التيكتوكرز مقاطع فيديو تمثيليّة تشرح بأسلوب مبسّط، اللامنطق الإسرائيلي، في تبريره احتلال الأراضي الفلسطينيّة، وسرقة بيوت الفلسطينيين والاستيلاء عليها والعيش فيها بالقوّة.
بالوثائق والتاريخ
كما قام العديد من اليوتيوبرز بصناعة فيديوهات توضح الحقيقة وراء انشاء ما عرف بدولة إسرائيل. وتحدّثوا عن القمع والقتل والابادة الجماعيّة والفصل العنصري الذي يتعرّض له الفلسطينيون كلّ يوم. ومن أصغر هؤلاء اليوتيوبرز نذكر الطفل الفلسطيني زياد الفاخوري إبن الثلاثة أعوام، والذي حصد الفيديو الخاص به ملايين المشاهدات.
وكذلك فيديو اليوتيوبر محمود إسماعيل المصري الأصل، والذي لم يكتف بعرض الأحداث السياسية وشرح تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا بل قام بحملة لجمع تبرّعات لمساعدة أهل غزّة.
إلى جانب فيديوهات اليوتيوبرز عليم، الذي خرج إلى شوارع أمستردام وسأل الناس إذا ما كانوا يقفون بصف إسرائيل أو فلسطين لتأتي الأجوبة المؤيّدة لفلسطين مفاجئة وصادمة.
من جهّته قام الصحافي الأسترالي جون بيلجر بإطلاق وثائقي بعنوان Palestine is still the issue، على منصّته على يوتيوب. والجديد الذي قدّمه بيلجر هو شهادات حيّة من شخصيّات إسرائيليّة تنتقد الأفعال الإسرائيليّة وتتحدّث عن الكذبة الاسرائيليّة الكبرى وعن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الذي حوّل الجنود الإسرائيليين إلى حيوانات. ويخلص إلى حقيقة مفادها أنّ الإسرائيليين لن ينعموا بالسلام إلاّ بالاعتراف بأنّ الفلسطينيين يستحقّون نفس الحقوق والاستقلالية والسلام الذي يتمتّعون به.
حاربوهم بلسانهم
وعلى صعيد صنّاع المحتوى، تصدّرت فيديوهات لانا مدوّر، محرّكات البحث. وما يميّز فيديوهاتها، هو أنّها تروى باللغة الإنكليزيّة وتترجم إلى العربيّة، وتستهدف شريحة واسعة من المواطنين من مختلف الجنسيّات، بالإضافة إلى استنادها إلى روايات وكتب أعدّها إسرائيليون تحدّثوا فيها عن الظلم الذي تمارسه إسرائيل بحقّ الفلسطينيين. ومن أبرز هذه الكتب كتاب السجن الأكبر على الأرض، والذي كتبه المؤرّخ الإسرائيلي ايلان بابيه. كما انتقدت الأكاذيب التي تروّج لها وسائل إعلام غربيّة مشاركة في البروباغندا الاسرائيليّة وكشفت حقيقتها. كما تحدّثت عن فيلم فرحة الذي يعرض الآن على نيتفليكس ويروي كيف احتلّ الإسرائيليون الأراضي الفلسطينية وكيف نكلّوا بالشعب الفلسطيني.
كما نذكر Trevor Noah وهو كوميدي أميركي ذو أصول أفريقيّة، دافع عن فلسطين، في برنامجه the daily show، على الرغم من إدراكه أنّ هذه الخطوة قد تحظر حسابه وتعرّضه للملاحقة والانتقادات. ووصل الفيديو الخاص به إلى 8 ملايين مشاهد. بعد أن روى قصّة فلسطين وكيف احتلّها اليهود ونكّلوا بشعبها.
وإلى جانب فيديو نواه، يأتي فيديو آخر بعنوان كيف سرقت إسرائيل فلسطين، how Israel stole Palestine من إعداد قناة OnePath network على يوتيوب، يشرح تاريخ الصراع الإسرائيلي العربي والإسرائيلي الفلسطيني وكيف وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم.
مقابلات ستدخل التاريخ
ولعلّ أقوى المقابلات التلفزيونيّة التي لاقت رواجا على مواقع التواصل الاجتماعي، هي مقابلة الإعلامي والكوميدي باسم يوسف مع الإعلامي البريطاني Piers morgan على قناة البي بي سي البريطانية. وتصدر بسببها، باسم يوسف قائمة الأكثر بحثاً على موقع "غوغل" بجانب ترند موقع "إكس". حيث استخدم يوسف أسلوب الـ dark humor أو ما يعرف بالكوميديا السوداء للإجابة على أسئلة مورغان، لينتهي بإحراج الأخير وجعله بطريقة غير مباشر يشبّه إسرائيل بداعش. حتّى انّه عرض أرقام الضحايا الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين وانتقد الاعلام الأجنبي الذي يزوّر الحقائق، واستهزأ بتصريح داني أيلون، (سياسي إسرائيلي ونائب وزير الخارجية السابق وعضو في الكنيست عن حزب إسرائيل بيتنا)، وبخطّته لتهجير ملايين الفلسطينيين إلى سيناء، واصفا إيّاه بأذكى رجل على وجه الكرة الأرضيّة.
وتقمّص يوسف خلال المداخلة، شخصية مواطن إسرائيلي مخاطباً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووجه إليه أسئلة جريئة من بينها "متى تتوقف عن القتل؟" و"كيف تقصف غزّة وفيها أسرى إسرائيليين؟" وقد حصدت مقابلة باسم يوسف حتى كتابة هذه السطور أكثر من 18 مليون مشاهدة.
وإلى جانب باسم يوسف، انتشرت مقابلة مورغان مع محمد حيجاب، (وهو ناشط بريطاني من أصول مصريَّة يعمل كصانع محتوى كما أنّه مؤلف، وداعية ومنظِّر وفيلسوف)، دافع فيها بشراسة عن الفلسطينيين منتقدا نظام الفصل العنصري الإسرائيلي وجرائم الحرب المرتكبة من قبل الحكومة الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني. وحصدت المقابلة حتى الآن حوالي الـ 9 ملايين مشاهدة.
وطبعا لا يمكن عدم ذكر مقابلات السفير الفلسطيني لدى بريطانيا، حسام زملط، التي تصدّرت مقابلاته عناوين المواقع الاخباريّة، ومحركات البحث على غوغل، والصفحات الأولى لمواقع التواصل الاجتماعي. والتي حرص من خلالها على نقل حقيقة الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون والجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحقهم. ولم يوفّر فرصة إلّا وانتقد فيها الإعلام الغربي والطريقة التي يسوّق فيها للتنكيل وقتل الفلسطينيين.
الإدانة والاعتراف
وإلى ذلك انتشرت مقاطع فيديو ليهود من أصول أميركية وبريطانيّة وألمانيّة، وأسترالية، وفرنسيّة، يناصرون فيها الفلسطينيين وينتقدون الكيان الصهيوني لا بل يقولون إنّ الدين اليهودي لا يقرّ باعطاء الله أرضاً لليهود بحسب المزاعم الاسرائيلية، وبأنّ إسرائيل بنيت على الأكاذيب والتضليل.
كما انتشرت فيديوهات لإسرائيليين مسنّين، يعتذرون إلى الشعب الفلسطيني ويعترفون بأنّهم وقوعوا ضحيّة كذبة كبيرة تربّوا عليها، وهي انّ "فلسطين ارضهم". ويتحدّثون عن عمليات غسل الدماغ التي تعرّضوا لها منذ صغرهم، وكيف جعلتهم يكرهون الفلسطينيين والعرب والمسلمين ويتمنّون قتلهم.
ولعلّ أقوى الفيديوهات التي ناصرت الفلسطينيين، جاءت على لسان متظاهرين أجانب خرجوا إلى الساحات مدافعين عن القضية الفلسطينية. ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بشتم المراسلين بسبب نقلهم الأكاذيب والتسويق لها وعلى رأسها كذبة قطع حماس لرأس 40 طفلاً إسرائيلياً.
وأدّت هذه التحرّكات، إلى جعل قناة البي بي سي تعتذر عن نقلها الأحداث بطريقة كاذبة، وخصوصا المظاهرات في الدول الغربية الداعمة لفلسطين.
الدعوة للمقاطعة ومشاركة صور الضحايا
كما انتشرت فيديوهات تدعو إلى مقاطعة شركة ماكدونالدز بسبب دعمها لإسرائيل. وأخرى لمواطنين كنديين يسائلون رئيسهم عن قراره دعم إسرائيل. فضلا عن مقاطع لكلمات رؤساء الدول والوزراء المدافعين عن فلسطين والمنتقدين للسياسات الإسرائيلية. إلى جانب مقاطع فيديو لعمليات القصف الإسرائيلي على غزّة، وانتشال الأطفال من تحت الركام، وانهيار عدد من المراسلين الصحفيين أثناء تغطيتهم للحرب في غزّة مباشرة على الهواء، بعد أن أدركوا أنّ أقاربهم وأفراد عائلتهم سقطوا من بين الضحايا. كما انتشرت فيديوهات لحالة الذعر والرعب التي عاشها الأطفال، والممرضين والأطباء والنساء والآباء داخل المستشفيات الفلسطينية. إلى جانب فيديوهات لممرضات وأطباء تفاجأوا بأهلهم من بين المصابين أو القتلى الذين نقلوا إلى المستشفى.
وعلى الرغم من قساوتها، لعبت هذه الفيديوهات دورا رئيسياً في إظهار حقيقة الإجرام الإسرائيلي المرتكب بحقّ المدنيين الأبرياء.
وأصعب صورة تمّ تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي تعود لأصغر شهيدة فلسطينيّة، واسمها نبيلة نوفل وعمرها 7 أيام. والتي نعتذر عن مشاركتها إحتراماً للطفولة والإنسانية وكل الضحايا ممن لا ذنب لهم في كل هذا القتل.
مشاهير يدعمون القضّية
كان يمكن القول أنّ دفاع عارضتي الأزياء الأميركيتين بيلا وجيجي حديد ووالدهما عن القضية الفلسطينية هو لكونهم من أصول فلسطينية. ولكنّ الأمر دعم الشعب الفلسطيني وصل إلى العديد من نجوم هوليوود أمثال جون كوزال مارك روفالو، ولورين جوريغو، وويل بولتر، وفايولا دائفيس، والإعلامي جون اوليفر، وسيلينا غوميز، ولاعب كرة القدم ذو الأصول البرتغالية كريستيانو رونالدو، وكيلاني آشلن.
موقع X بالمرصاد
وبدوره تحدّى إلون ماسك الاتحاد الأوروبي، الذي اتّهمه بالمساهمة بنشر معلومات مضلّلة حول عملية طوفان الأقصى بسبب سماح ماسك ببقاء الحسابات المؤيّدة لفلسطين على موقع x المعروف بتويتر سابقاً، وكتب ماسك عبر حسابه الرسمي في موقع X "" ردا على المفوض الأوروبي للسوق الداخلية: "سياستنا تقوم على أنّ كلّ شيء مفتوح المصدر وشفّاف، وهو نهج يدعمه الاتحاد الأوروبي حسب معرفتي، يرجى إدراج الانتهاكات التي تشير إليها في موقع "X" حتى يتمكّن الجمهور من رؤيتها"، وأضاف: "شكرا جزيلا لك".
فيما لعب موقع X دوراً رئيسياً في الحرب الاعلاميّة المضادة للبروباغندا الإسرائيلية الأميركيّة، حيث تصدّرت وسوم فلسطين الآن، وفلسطين حرّة، غزّة العزّة، غزّة تستغيث، Gaza genoside، israel terrorist، israel attack وغيرها من الهاشتاغز الداعمة لفسلطين التراند على تويتر.
إذاً يبدو أنّه وعلى الرّغم من المبادرات الفرديّة التي يقودها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لإظهار الحقيقة والدفاع عن القضية الفلسطينية، تمكّنت الدعاية المضادة من تسجيل نقاط في ملعب البروباغندا الإسرائيليّة، لا بل قد تسبقها بأشواط، وهو ما ظهر واضحاً في التظاهرات الشعبية في المدن والعواصم الغربية والعربية دعماً لفلسطين ورفضاً للمجازر التي ترتكب بحق شعب غزّة.