بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، ماذا يخبرنا مبدأ الاحتمالات عن فرص انقراضنا؟
ننقرض أو لا ننقرض؟ سؤال لا يأتي من عدمٍ. الأسباب الضّاغطة التي ترفع من منسوب خطر انقراض جنسنا البشري تتراكم. وهو هاجس يقضّ مضاجع كثيرين ممّن يكترثون لأمر الكوكب وقاطنيه. لكن كثيرين آخرين يشيحون النظر عمداً أو سهواً، جهلاً أو تجاهلاً. الأكيد، من منظارَي التاريخ والمستقبل، أن شبح الانقراض ليس وهماً. فقد يحالفنا الحظ ونُفلت من عوامل انقراضية خارجة عن إرادتنا. لكن من ينقذنا ممّا تجنيه أيدينا؟
العودة بالزمن إلى ماضينا تُعيننا الشيء الكثير في هذا الصدد. فبحسب دراسة جديدة نُشرت في مجلّة Science، لامست البشرية جدّياً حدّ الانقراض قبل حوالي مليون سنة. في تلك الحقبة، راوح عدد سكّان الكوكب نحو 1300 شخصٍ طيلة ما يقارِب 100 ألف سنة. وقد يكون لذلك الحدث الجلل دورٌ أساسيّ في تطوّر الجنس البشري وأقربائنا المنقرِضين - أي إنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفان.
الباحثون عكفوا على دراسة جينوم أكثر من 3150 إنساناً حديثاً ينتمون إلى 10 مجموعات سكانية إفريقية و40 مجموعة غير إفريقية. وترافق ذلك مع تطوير أداة تحليلية لاستنتاج حجم المجموعة التي ضمّت أسلاف الإنسان الحديث عبر مراقبة تنوُّع التسلسل الجيني لدى الأحفاد. البيانات الجينية توصّلت إلى أن أسلافنا واجهوا قبل ما بين 813 ألف و930 ألف سنة خلت ما يُسمّى بـ"عنق زجاجة" حادٍ، حيث تناقصت أعدادهم القابلة للتكاثر بواقع 98.7%، مقارِبين بذلك حدّ الانقراض.
ركّز الفريق البحثي على تزامُن الانهيار السكاني مع حالة تبريدٍ مناخيّ شديدٍ أدّت إلى ظهور الأنهار الجليدية، وانخفاض درجات حرارة أسطح المحيطات، وفترات طويلة من الجفاف في قارّتَي إفريقيا وأوراسيا. واللافت أنّ أبحاثاً سابقة كشفت اندماج كروموسومَين قديمَين مكوّنَين لما يُعرف حالياً بالكروموسوم 2 لدى الإنسان الحديث قبل ما بين 740 ألف و900 ألف سنة. أمّا تزامُن الاندماج الكروموسومي مع "عنق الزجاجة"، فقد يدلّل، بحسب الباحثين، على رابط بين شبه الانقراض ذاك وتغيُّر الجينوم البشري.
وما أشبه اليوم (والغد) بالأمس. فقد توقّع باحثون من جامعة بريستول البريطانية أنّ ما يصل إلى 92% من مساحة الأرض قد تتحوّل غير صالحة للسكن من قِبَل الثديّيات – ونحن من ضمنها - خلال 250 مليون سنة. والحال، كما يُعتقد، أنّ الكتل الأرضية للكوكب ستُشكّل قارة عملاقة - إسمها بانجيا ألتيما – عند خط الاستواء ينتج عنها نشاط بركاني وزيادة في مستويات ثاني أكسيد الكربون ستُحيل معظم أراضيه قاحلة.
ومن خلال نمذجة مناخ القارة العملاقة "الموعودة"، كما ورد الشهر الماضي في مجلّة Nature Geoscience، وجد الباحثون أنّ مساحات واسعة منها ستشهد درجات حرارة تفوق 40 درجة مئوية ما يجعلها غير قابلة للسكن. كما أنّ تزايُد الإشعاع الشمسي من شأنه التسبّب بمزيدٍ من الاحترار، إذ ستكون الشمس أكثر سطوعاً بنسبة 2.5% خلال تكوُّن بانجيا ألتيما، نتيجة حرقها لمستويات أعلى من وقود الهيدروجين وتقلُّص لبّها، ما يزيد من معدّلات اندماجه النووي.
في أسوأ السيناريوهات المرسومة، ستتضاعف مستويات ثاني أكسيد الكربون مقارنة مع وضعها الراهن. وهذا ما سيجعل 8% فقط من سطح الكوكب صالحاً للحياة، مقابل حوالي 66% اليوم. وقد يطال الانقراض الجماعي الحياة النباتية أيضاً، إذ إنّ النباتات، عامّة، لا تتأقلم مع درجات حرارة تفوق 40 درجة. والنتيجة: تضرُّر الهرم الغذائي، مطيحاً بأنواع حياة أخرى تعتمد عليه كمصدرٍ غذائي.
كل هذا ولم يأخذ الباحثون بالاعتبار أمرين: انبعاثات الكربون الناجمة عن النشاط البشري؛ والتطوّر التكنولوجي الذي قد يتيح فرصَ نجاة معيّنة من خلال القدرة على التحكّم ببعض الظروف البيئية. لكن ثمّة ملاحظة أساسية هنا. فقد تطوّرنا كبشرٍ لنتحمّل البرد أكثر من الحرّ. كما أنّ الجسم يَبرُد في الجو الحار عن طريق التعرّق كردّ فعل تلقائي. لذا، ترتبط فعالية عملية تبديد الحرارة بكون الهواء المحيط أكثر برودة من البشرة الخارجية، التي يتعيّن أن تكون بدورها أكثر برودة من حرارة الجسم الداخلية - أي 37 درجة مئوية.
بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، ماذا يخبرنا مبدأ الاحتمالات عن فرص انقراضنا؟ الفيلسوف الأسترالي وصاحب كتاب "الهاوية" حول خطر انقراض الإنسان، توبي أورد، حدّد احتمال مواجهتنا لـ"كارثة وجودية" خلال القرن المقبل، بغضّ النظر عن المسبّب، بواحد من ستة. وبتحديد أكثر، قدّر فرص اصطدام كويكب ما بالأرض – معرّضاً إيانا للانقراض - بواحد في المليون. لكن يبقى ذلك أقلّ احتمالاً من انقراضنا بسبب تغيّر المناخ (واحد في الألف)، أو الذكاء الاصطناعي "المعادي" (واحد من عشرة).
إحصاء عدد الصخور الفضائية التي اصطدمت بالقمر على مرّ تاريخه قد تسمح باستنتاج احتمال انقراضنا على يد كويكب ما. لكن أورد اعترف بالمطلق بأن المقاربة مشوبة بِقدْر كبير من عدم اليقين. فلماذا "واحد من ستة"، مثلاً؟ في ظل عدم امتلاك معظم الناس لِفَهم كامل لمنطق الاحتمالات، يمسي الهدف من التقدير تحقيق قوة دفع قادرة على التأثير النفسي بالمتلقّي. وهكذا، يكون احتمال "واحد من ستة" أشدّ أثراً من كلّ من "واحد من مئة" - الضئيل لدرجةٍ تَحمِل المتلقّي على تجاهله - و"واحد من ثلاثة" - المرتفع إلى حدّ إثارة ذعر المتلقّي بدل تحفيزه على التنبّه.
على اختلاف المقاربات والمعطيات، فإنّ احتمالات انقراضنا قائمة ومثيرة للقلق. التغيّر المناخي والحروب التقليدية والبيولوجية والسيبرانية – وربما النووية - لا ولن ترحم. أما أطماع الكون تجاهنا – أو نظرة ما ومن فيه إلينا – فلُغز الألغاز. بالتالي، إن لم نقم بواجبنا، نحن المتلهّين بصراعاتنا، لن يزداد حكم التاريخ بحقّنا سوى حتمية انقراضية.