لا صوت يعلو في هذه المرحلة على صوت طبول الحرب المنطلق عنانها بين الجنوب اللبناني وقطاع غزة الفلسطيني...
كلّ الاستحقاقات الداخلية اللبنانية موضوعة جانباً في هذه المرحلة، وليست هناك من أوهام لدى أيّ من الأفرقاء السياسيين ولا العواصم العربية والأجنبية في أنّها ستكون قابلة لمعاودة البحث خلال أمد قريب، فالزمن لم يعد زمن أعاجيب أو مفاجآت، وإنّما زمن تغيير دول، والمثل يقول: "عند تغيير الدول احفظ رأسك".
لا صوت يعلو في هذه المرحلة على صوت طبول الحرب المنطلق عنانها بين الجنوب اللبناني وقطاع غزة الفلسطيني، وهذه الحرب طويلة على حدّ ما أبلغت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا الآتية من اسرائيل ومصر إلى المسؤولين اللبنانيين، وتحديداً إلى الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، طالبة أن يتدبّر لبنان أمره وأن يتلافى الانزلاق إلى هذه الحرب.
ميقاتي، وحسب المعلومات، أبلغ إلى كولونا أنّ لبنان قراره هو السلام، ولا يتحمّل الدخول في الحرب، وأنّ قرار جرّه إلى الحرب من عدمه هو في يد إسرائيل التي عليها أن تلتزم القرار الدولي 1701 لعام 2006 ولا تخرقه برّاً وبحرّاً وجوّاً ضد السيادة اللبنانية، ولدى لبنان ما يكفيه من أزمات وانهيارات على كلّ المستويات والقطاعات يساهم المجتمع الدولي في تفاقمها، وقضية التعامل مع ملفّ النّزوح السوري أبرز مثال.
على أنّه خلافاً لكلّ الإشاعات والتّسريبات والقائلة بأنّ "محور المقاومة" يقف على أهبّة اتّخاذ القرار بدخول الحرب لحظة محاولة اسرائيل الاجتياح البرّي لقطاع غزة، فإنّ هذا المحور ليس في وارد اتّخاذ قرار من هذا النّوع حتّى الآن، وهو يعمل بكلّ ما أوتي من قوّة وإمكانات ديبلوماسية لدى أصدقائه الدوليين لثبيت الواقع الذي أنتجته عملية "طوفان الأقصى" التي أضعفت الموقف الإسرائيلي إلى أقصى الحدود، وأفقدت إسرائيل "قوّة الردع" التي لطالما امتلكتها في تاريخ نزاعها مع العالم العربي وأخضعت بها دولاً ترغيباً أو ترهيباً، ومكّنتها من تحقيق مكاسب واستثمارات إقليمية وعالمية كبرى على كلّ المستويات.
يقول قطب سياسي ينتمي إلى "محور المقاومة" إن الحرب طويلة، وربّما ستستمرّ على جولات أوّلها كان "طوفان الأقصى" وإنّ القرار بفتح الجبهات قائم
إلّا أنّ محور المقاومة الذي أراد من "طوفان الأقصى" أن يؤدّي إلى كسر هيبة إسرائيل أوّلاً تمهيداً لوقف مسار التطبيع العربي معها ثانياً، ودفعها إلى الإقرار بحقّ الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلّة، إن كان تحرير فلسطين من البحر إلى النّهر متعذّراً، تولّدت لديه مخاوف حقيقية من أن يكون اجتياح قطاع غزة مقدّمة لإنهاء حلم الدولة الفلسطينية وإنهاء القضيّة برمّتها، أو جعل الدولة الموعودة دويلة تقتصر على الضفّة الغربية فقط، ولذلك رفع سيف التّهديد بفتح الجبهات على الدولة العبرية إن هي قرّرت أن تجتاح غزّة وتهجّر سكّانها وتجعلها أرضاً محروقة، لأنّ ذلك إذا حصل سيكون إنهاء لقضيّة فلسطين التي تفيد مراكز أبحاث ودراسات فلسطينية أنّ عدد سكّانها الموزعين بين الأرض المحتلّة ودول الشتات حول العالم بات يبلغ 30 مليون نسمة، تكاثروا منذ أيّام النكبة عام 1948 وحتّى اليوم.
ويقول قطب سياسي ينتمي إلى "محور المقاومة" إن الحرب طويلة، وربّما ستستمرّ على جولات أوّلها كان "طوفان الأقصى" وإنّ القرار بفتح الجبهات قائم، ولكنّ توقيت تنفيذه مرهون بتطوّرات الميدان العسكري معطوفاً على ما يجري في الميدانين الإقليمي والدولي، ولبنان جزء من هذه الميادين الثلاثة عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً.
ومثلما هناك انقسام لبناني ـ لبناني بين من يؤيّد الحرب إلى جانب حركة "حماس" ومن يعارضها، هناك انقسام فلسطيني حولها بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" التي تقود "الطوفان" وأخواتها، وكذلك هناك انقسام عربي ـ عربي بين مؤيّد ومعارض، فضلاً عن ذلك الانقسام الدولي.
لكنّ الخطير المتخوّف منه، حسب القطب نفسه، هو أن تتحوّل حرب غزّة حرباً بين محورين: "محور التطبيع" الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، التي أرسلت مجموعة حاملة الطائرات جيرالد فورد وحاملة طائرات ثانية إلى شرق البحر الأبيض المتوسّط دعماً وتطميناً لإسرائيل، و"محور المقاومة" الذي تقوده إيران الذي يعتبر أنّ هذه الأساطيل تستهدفه، وأنّ إسقاط غزّة قد يكون مقدّمة لإسقاطه إذا تسنى للمحور الآخر ذلك. بدليل الكلام الخطير الذي عبّر عنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الذي قال في ختام جولته الأخيرة على المنطقة "إنّ إمكانية فتح جبهات جديدة ضدّ إسرائيل أمر لا مفرّ منه"، مشيراً الى أنّ "توسع الحرب في المنطقة سيؤدّي إلى تغيير في خريطة إسرائيل".
ولعل الأخطر في هذا السياق كان ما نقله عبداللهيان عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي اجتمع به لثماني ساعات، من أنّه "إذا لم ندافع عن غزة اليوم، فعلينا أن ندافع عن مدننا غداً. وإذا لم نتّخذ إجراءً استباقياً، فسنضطر إلى محاربة القوّات الصهيونية في بيروت غداً". فيما حذّر رئيس مجلس النّواب نبيه بري، خلال كلمة ألقاها عبر تقنيّة "الفيديو كول"، في المؤتمر الطّارئ لرؤساء المجالس النّيابيّة لاتحاد مجالس الدّول الأعضاء في "منظمة التعاون الإسلامي"،من أنّ "مخطّط "الترانسفير" للشعب الفلسطيني من قطاع غزّة في اتّجاه شبه جزيره سيناء، إذا ما قدّر له أن يمّر هو ليس سقوطًا للقضية الفلسطينية وقضاءً عليها فقط وإنّما هو سقوط للأمن القومي العربي والإسلامي، ومشروع تجزئة وتقسيم للمنطقة بأسرها إلى دويلات طائفيّة وعرقيّة متناحرة، تكون إسرائيل فيها هي الكيان الأقوى".
وفي المقابل بدا من حركة الدول الغربية المؤيّدة لإسرائيل مشفوعة ببعض المواقف العربية والدولية الرمادية، أنّ هناك تركيزاً على وجوب الفصل بين حركة "حماس" وأخواتها وبين الشعب الفلسطيني، لأنّ مثل هذا الفصل في رأي القطب السياسي إيّاه، يندرج في إطار المشروع الهادف إلى "سحق" هذه الحركة. فوزيرة خارجية فرنسا قالت من بيروت: "لا يجب أن نخلط بين حماس والشعب الفلسطيني بأكمله"، فيما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكنيست "إنّ العالم في حاجة إلى الاتّحاد لهزيمة "حماس"، مشبّها إيّاها بـ"داعش"، ومؤكّداً أنّه "يجب سحقها".، ومحذّراً إيران و«حزب الله»، من "اختبار" إسرائيل في الشمال. وقال: "لا تجرّبوا امتحاننا في شمال البلاد لأنّ الثمن سيكون باهظاً". وأكّد أنّ "الهدف هو تحقيق النّصر الأكيد والقضاء على حركة حماس".
لكن إلى الآن لم تتبلور بعد أيّ ملامح لحلّ سياسي ـ عسكري للحرب، فكلّ التركيز العربي والدولي يتمّ على المعالجات الإنسانية، وقد فشل مجلس الأمن في التصويت على قرار روسي بوقف إطلاق نار إنساني ليوم واحد لإدخال المساعدات إلى غزة، وتصدّرت الدّول الغربية الكبرى معارضة هذا القرار. أمّا المعالجة السياسية فيبدو أنّها مؤجّلة، إما في انتظار تنفيذ إسرائيل تهديدها أو تأجيل قرارها بالهجوم البرّي على القطاع، إلى ما بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتل أبيب هذا الأسبوع، لكنّ كلّ الأنظار ستبقى منصبّة ومترقّبة لما يمكن لـ"محور المقاومة" أن يتّخذه من خطوات "وقائية" تحدّث عنها وزير الخارجية الإيراني. فيما كثيرون يتساءلون عمّا إذا كان السيد نصرالله سيطلّ قريباً، وفي حال أطلّ ماذا ستسبق إطلالته أو يعقبها؟
غالب الظنّ أنّ المنطقة ومنها لبنان، قد دخلت مرحلة طويلة شديدة الخطورة، في ظلّ سؤال كبير هو: مَن سيسبق مَن إلى قطف ثمار "الطوفان"؟
وإنّ غداً لناظره قريب...