من الواضح من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنّ قرار تصفية قطاع غزّة قد اتّخذ، حيث تقوم الآلة العسكرية الإسرائيلية بهدم الحجر وقتل البشر في القطاع بشكلٍ مُمنهج. وتستخدم إسرائيل الهجوم الذي قامت به حماس على المستوطنات الإسرائيلية المُحيطة بالقطاع والصواريخ التي تُطلقها حماس على العمق الإسرائيلي لتبرير ما تقوم به من عمليات عسكرية في قطاع غزّة.
ومن الواضح أيضًا من خلال التصريحات الإسرائيلية أنّ غزّة لن تعود كما كانت في السابق، وهو ما يحمل في طيّاته تفسيرات كثيرة لعلّ أكثرها احتمالاً هو تهجير أهل غزّة ونقلهم إلى جنوب القطاع في شبه جزيرة سيناء خصوصًا مع الحلم الإسرائيلي بحفر قناة موازية لقناة السويس والتي تُعرف على الورق باسم "قناة بن غوروين". وبالتالي، فإنّ وجود قطاع غزّة بحاله "لن يكون جيدًا للأعمال" بحسب الإسرائيليين! وهو ما يُمكن استنتاجه من تصريح مستشار الأمن القومي الإسرائيلي "تساحي هانغبي" الذي قال إنّ "العملية الحالية هدفها أكبر من القضاء على حماس"، وهو ما يذهب في اتّجاه تأكيد نيّة إسرائيل تهجير أهالي قطاع غزّة.
إذا نجحت إسرائيل في القضاء على حماس في قطاع غزّة، فإنّها تكون قد نجحت في تحقيق المرحلة الأولى من خطّتها التي تنصّ على لجم نفوذ إيران في المنطقة، عبر ضرب القوى التي تقع تحت تأثير طهران. هذه الخطة كان قد وضع أسسها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في العام 2017 ونشرت خطوطها العريضة آنذاك وكالة بلومبرغ. وقالت الوكالة آنذاك أنّ لجم النفوذ الإيراني يمرّ عبر ضرب حزب الله وحماس، "الأذرع العسكرية" لإيران في المنطقة بحسب الإسرائيليين. ويُشكّل حزب الله وحماس الخطر الأكبر على إسرائيل من ناحية القرب الجغرافي، وبالتّالي تعتبر إسرائيل أنّ القضاء على هذا الثنائي يحلّ مُشكلتها. وهو ما يُمكن الوصول إليه من خلال عملين متوازيين: الأول عسكري والثاني عبر العقوبات المالية.
ماليًا، فرض الغرب وعلى رأسه الولايات المُتّحدة الأميركية عقوبات على كثير من الشخصيات والمنظّمات التي تنتمي (أو تُموّل) لإيران وحزب الله وحماس. لكنّ هذا الإجراء لم يكن على قدر التوقّعات مع تخطّي هذه العقوبات من قبل الثلاثي بطرقٍ لا تستخدم الأنظمة المالية العالمية.
أمّا عسكريًا، فقد استفادت إسرائيل من الهجوم الأخير لحركة حماس على مستوطناتها حيث قامت باستخدام حجّة قتل إسرائيليين من قبل الحركة لتُبرّر أمام العالم ما تقوم به حاليًا من عمليات عسكرية وصفتها الخارجية الصينية بالقول إن "إسرائيل تتصرّف خارج حدود الدفاع عن النفس".
تبلغ الكلفة العسكرية المباشرة على إسرائيل لكلّ يوم حرب حدود الـ 400 مليون دولار أميركي (أرقام عدوان تموز 2006)
إلى أيّ مدى يُمكن لإسرائيل ومن الناحية الاقتصادية الذهاب في عملياتها العسكرية في القطاع وفي فتح جبهات أخرى؟
من الواضح وعلى الرّغم من المقاومة العسكريّة لحركة حماس أنّ قطاع غزّة ساقط عسكريًا أمام القصف المُخالف للقوانين الدولية الذي تُمارسه الماكينة العسكرية الإسرائيلية في القطاع. وبحسب أرقام عدوان تمّوز 2006، تبلغ الكلفة العسكرية المباشرة على إسرائيل لكلّ يوم حرب حدود الـ 400 مليون دولار أميركي (أرقام عدوان تموز 2006) ممّا يعني أن عشرة أيّام تُكلّف بحدود الـ 4 مليار دولار أميركي وهو رقم لن تستطيع إسرائيل تحمّله وحدها من دون مساعدات خارجية. أضف إلى ذلك أنّ خسائر الاقتصاد الإسرائيلي الناتجة عن انسحاب رؤوس الأموال من الأسواق المالية والتي تخطّت المليارات، مع خسائر تطال بالدّرجة الأولى المصارف وشركات التأمين والقطاع السياحي وقطاع الصناعات العسكرية والتكنولوجية.
وبالتالي وفي ظلّ فرضية فتح جبّهة شمالية مع لبنان، فإنّ الأمور تختلف مع القدرة العسكرية التي يتمتّع بها حزب الله حيث وباعتراف متحدث باسم الجيش الإسرائيلي في تصريح لشبكة "فوكس نيوز الأميركية" أول من أمس، يمتلك حزب الله "نحو 130 ألف صاروخ موجهة نحونا، وهذه مشكلة خطيرة". وهو ما يُبرّر ولو جزئيًا وجود بوارج غربية في عرض البحر جاهزة للتدخّل في حال فُتحت عدّة جبهات.
المعروف أنّ الحروب تقضم الإحتياطات من العملات الأجنبية. وبالتّالي وفي بداية الهجوم الفلسطيني على المستوطنات الإسرائيلية، قام المصرف المركزي الإسرائيلي بضخّ 30 مليار دولار أميركي من إحتياطاته من العملات الأجنبية والبالغة 198.56 مليار دولار أميركي (بحسب موقع المصرف المركزي الإسرائيلي) في الأسواق للدفاع عن الشيكل الإسرائيلي. أضف إلى ذلك تراجع إضافي متوقّع في الإحتياطات بعدّة مليارات من الدولارات حتّى الساعة نتيجة الحرب في غزّة، وهو ما يعني أن عدّة أشهر من الحرب كفيلة بقضم قسم كبير من هذا الإحتياط.
أيّ عمل عسكري إسرائيلي ضدّ لبنان، قد يتحوّل إلى صراع مفتوح لا مصلحة لحزب الله فيه خصوصًا مع الأزمة الإقتصادية التي تعصف بلبنان والتدعيات المعيشية التي سيواجهها الشعب اللبناني. لكنّ هذا الأمر يصح أكثر من الجهة الإسرائيلية حيث أنّ أيّ صراع مفتوح مع حزب الله سيضع الإقتصاد الإسرائيلي في وضعٍ سيءٍ جدًا إذ لم نقل كارثي وذلك للأسباب التالية:
أولًا – أيّ عمل عسكري واسع النطاق ستكون له تداعيات سلبية على الشيكل الإسرائيلي بحكم انسحاب الاستثمارات، وبالتّالي فإنّ المصرف المركزي الإسرائيلي سيكون مُرغمًا على قضم مخزونه من العملات الصعبة للدفاع عن عملته.
ثانيًا – مع استغلال إسرائيل للثروة النفطية في البحر ورغبتها في أن تُصبح مُورّد رئيسي لأوروبا (تأمين 10% من احتياجات السوق الأوروبي)، فإنّ أيّ فتح لجبهة مع لبنان يُعرّض الحقول النفطية الإسرائيلية لنيران حزب الله وهو ما يُبرّر وجود البوارج الغربية في البحر لحماية الحقول. وبالتالي لا مصلحة لإسرائيل بتوسيع دائرة المواجهات العسكرية.
ثالثًا – إنّ اندلاع حرب على نطاق واسع سيجعل من الأراضي الإسرائيلية عرضة لصواريخ ستطال بنيتها التحتية، وستُعطّل النشاط الاقتصادي مما يؤدّي إلى خسارة كبيرة على الاقتصاد الإسرائيلي مع هجّرة في الاتجاه المُعاكس، وهو ما لا تريده إسرائيل للحفاظ على توازن ديموغرافي.
رابعًا – الكلفة العسكرية لكلّ يوم حرب وكما ذكرنا أعلاه تبلغ حدود الـ 400 مليون دولار أميركي مما يعني أن الاقتصاد الإسرائيلي لن يستطيع تحمّله دون مُساعدات مالية خارجية. الجدير ذكره أنّه وبحسب الباحث جيريمي شارب (تقرير بحثي للكونغرس الأميركي – ك1 2016)، بلغ حجم المُساعدات الأميركية الرسمية للدولة العبرية منذ العام 1949 حتى العام 2017، 127 مليار دولار أميركي (60 مليار منذ العام 1996) منها 80 مليار مساعدات عسكرية و30 مساعدات اقتصادية.
هذه الأسباب الآنفة الذكر تضع سقفًا أعلى لأيّ عملية عسكرية إسرائيلية على لبنان حتّى ولو أنّ للدوّلة العبرية رغبة مُعلنة من قبل مسؤوليها بالقضاء على حزب الله. هذه الرغبة يبرّرها الجانب الإسرائيلي بأنّ ضرب حزب الله وإضعافه عسكريًا، يخفّض منسوب الخطر على الاقتصاد الإسرائيلي من خلال الصواريخ التي قد يُطلقها، وهذا ما سيسمح لإسرائيل بالتركيز على تعظيم اقتصادها مع الثروات الطبيعية الحديثة الاكتشاف.
فهل تُقدّم إسرائيل على مهاجمة لبنان وتُعرّض اقتصادها وماليتها وعملتها لخطر حتمي؟ الأيام القادمة كفيلة بالردّ على هذا السؤال!