مثلها مثل أيّ مؤسسة تجارية، تفتّش المصارف عن مصادر للإيرادات منذ تاريخ إنشائها. وهي تعتمد على التسليف أولاً، وعلى العمولات ثانياً، والتوظيفات في الأدوات المالية ثالثاً، والعمولات الاستثنائية التي تتأتّى من بيع الموجودات. "اليوم خسرت المصارف اللبنانية ثلاثة من مصادر إيراداتها، لم يتبقّ لها سوى المصدر الثاني، أي العمولات"...
فيما تقف منطقة الشرق الأوسط على فوهة بركان "طوفان الأقصى"، تتوهّج جمرات الأزمة الّنقدية في لبنان تحت رماد سياسة مصرف لبنان الجديدة. فالاستقرار في سعر الصرف "مهتزّ" وهو راكب بحسب القول المأثور على "صوص" تجفيف الليرة، و"نقطة" كبح جماح الإنفاق العام. فيما المصارف تراقب بـ "عين الصيّاد" تحرّكات المركزي، من دون أن تحسم إن كان "فرط نشاطه" هو مقدّمة للانقضاض عليها، أم مناورة لإثارة حماسة المودعين.
لا يفوّت حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري فرصة، إلّا ويؤكّد الإصرار على عدم تمويل الدولة بالليرة والدولار. "فلتعتمد على مداخيلها الداخلية"، قالها منصوري لمحطة "الشرق بلومبيرغ"، خلال مقابلة على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدولي المنعقدة في مراكش المغربية. واصفاً هذا القرار بالـ"إصلاحي". وهناك "تعاون وثيق اليوم بين المصرف المركزي والحكومة اللبنانية ووزارة المال لإنجاح هذا التوجه، وليس الضغط لتغييره". إلّا أنّه مقابل ربط النزاع مع الدولة، من غير المتوقّع له الصّمود طويلاً، فتح منصوري جبهة مع المصارف التجارية. إذ أصدر تعميماً وسيطاً حمل الرقم 679 تاريخ 3 تشرين الاول 2023، طلب فيه من المصارف عدم فرض أيّ نوع من العمولات الجديدة على حسابات الودائع لم تكن مفروضة قبل تاريخ 31 تشرين الاول 2019. وذلك بعدما ألغى منصّة صيرفة التي كانت تتربّح منها المصارف بعمولة 5 في المئة، أو ما قدّر بأكثر من 1.2 مليار دولار بين نيسان 2021 وتموز 2022.
عمولات لا تخطر بالبال
المشكلة أنّ المصارف تعيش حرفياًّ على العمولات بعدما تحوّلت إلى "زومبي بنك"، لا تستقبل الودائع ولا تعطي القروض مقابل فوائد. و"قد استغلّت الاحتجاز الاجباري للودائع، وغياب المنافسة في ما بينها واضطرار المودعين استعمال حساباتهم، لفرض عمولات غير منطقية يميناً ويسارا"، يقول عضو رابطة المودعين المحامي فؤاد الدبس. "ولم تنجُ حتّى الحسابات الخامدة من هذه الاقتطاعات العشوائية. حيث عمدت مصارف إلى تخيير المودعين بين اقتطاع 200 دولار بالشهر من حسابات التوفير، أو نقل الأموال إلى حساب جارٍ، يقتطع منه عمولة 13 دولار شهريا. و"ذلك من أجل سحب ورقة الضّغط من يد المودعين التي يمثّلها دفتر التوفير، والذي يعتبر سند تنفيذي أمام المحاكم، من جهة. وإلزامهم من الجهة الثانية على توقيع عقد جديد يتضمن بنوداً ملغومة. وبالتالي استثناء الودائع من الحماية وردها بعملتها الحقيقية في أيّ خطّة مستقبلية".
من العمولات غير المبرّرة تبرز أيضا عمولة بين 200 و300 دولار لإقفال ملف قرض الإسكان. والمفارقة أنّ هذه العمولة تشكّل نسبة مئوية عالية جداً من حجم المبلغ النهائي. ولنفترض أنّ الباقي من القرض المراد تسديده كاملا 50 ألف دولار، فيدفع المودع 75 مليون ليرة لتسديد القرض، ويدفع 20 مليون ليرة عمولة تشكل 41 في المئة من قيمة القرض.
وكان لافتاً اتجاه المصارف إلى فرض عمولة تتراوح بين 300 و500 دولار نقداً لفتح حساب شركة قيد التأسيس. وذلك بغضّ النظر عن حجم الشركة وطبيعة عملها. وهو ما لا يشكّل عائقاً أمام الشباب لتأسيس أعمال فقط، إنّما على قوننة الأعمال وتحييدها عن الاقتصاد النقدي. اذ يمتنع كثيرون عن فتح حسابات ووضع رأسمال الشركة فيها كما يقتضي القانون هرباً من العمولات وخوفاً من المفاجآت.
الزيادة الكمّيّة في العمولات
هذه العمولات والكثير غيرها على السحب والإيداع التي لم تزد نوعيّاً فحسب، إنّما كمّياً أيضاً فتحوّلت نسبتها إلى مئوية بعدما كانت تحتسب بالألف. وهي "تؤدي إلى ذوبان الودائع. لاسيّما الصغيرة منها، وتحقيق أصحاب المصارف لأرباح تعوضهم عن جمود الإقراض"، بحسب الدبس. "وهو ما يتنافى مع المنطق، ويحوّل هذه العمولات إلى خوّات".
العمولات حقّ للمصارف
مثلها مثل أيّ مؤسسة تجارية، تفتّش المصارف عن مصادر للإيرادات منذ تاريخ إنشائها. وهي تعتمد على التسليف أولاً، وعلى العمولات ثانياً، والتوظيفات في الأدوات المالية ثالثاً، والعمولات الاستثنائية التي تتأتّى من بيع الموجودات. "اليوم خسرت المصارف اللبنانية ثلاثة من مصادر إيراداتها، لم يتبقّ لها سوى المصدر الثاني، أي العمولات"، يقول خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. "فالإيرادات من بيع الموجودات ليست ذات جدوى، بل إنّها مؤذية للمصارف، لانّ الأسعار في السّوق دون السّعر الحقيقي، وهي تنعكس في نهاية المطاف على أموال المودعين. والتسليف متوقف، والتوظيفات بالأدوات المالية معلق. وعليه إن كان مصرف لبنان لديه الرغبة والنية بدعم المصارف واستمرارها في خدمة الاقتصاد، عليه ان يحاول فسح المجال امامها لكي يكون لديها ايرادات تغطي، بالحد الأدنى، مصاريفها التشغيلية"، برأي فحيلي. وهنا يأتي دور أهمية التسريع بإعادة الهيكلة. فهذه العملية تنعكس إيجاباً على تخفيض الكلفة التشغيلية للمصارف من خلال تخفيف اعداد الموظفين والحد من انتشار الفروع، وتوزيع الأرباح ودعم رأس المال. وعليه فان التعميم المذكور "شعبوي أكثر منه منطقي"، برأي فحيلي. "وهو لم يأخذ بعين الاعتبار ارتفاع كلفة تقديم الكلفة المصرفية مقارنة بالعام 2019. وزيادة أكلاف علاقة المصارف التجارية بالمصارف المراسلة، وارتفاع مصاريف المواد الأساسية من إنارة وأوراق وصيانة... وغيرها الكثير من الأكلاف. وبالتالي من غير المنطقي أن تحافظ المصارف على عمولة بنسب ضئيلة وعلى سعر الصّرف الرسمي، فيما كلّ النفقات التشغيلية ارتفعت على المصارف التجارية. خصوصاً بالنسبة لحسابات "الفريش". وفي جميع الحالات لو كانت المصارف تقوم بدورها الطبيعي، فإنّ كلفة التسليف ستكون مرتفعة حتماً.
في الوقت الذي تزداد فيه الأمور تعقيداً ما زال تطبيق التعميم 165 الذي يشجّع على عودة استعمال الودائع بالدولار النقدي بوسائل الدفع غير النقدية خجولاً. مع العلم أنّ هذا التعميم يعتبر "الممرّ الإلزامي لعودة الحياة للقطاع المصرفي"، من وجهة نظر فحيلي. "وعلى منصوري التصرّف كحاكم مصرف لبنان، وليس شخصية مرشّحة على الانتخابات".
بين العمولات التي تصفها رابطة المودعين بـ "الخوات"، وبين أحقّية زيادة الإيرادات لتتماشى مع التكاليف أولاً والنسب المعمول بها عالميا ثانياً، تبقى المشكلة بتعطّل المصارف. ولعلّ أكثر ما يثير غيظ المودعين هو دفعهم مبالغ طائلة مقابل الاستمرار بسرقتهم.