أمّا وقد جاءت المفاجأة فلسطينية وبهذا الحجم الكبير الذي من شأنه أن يغيّر وجه المنطقة، فإنّ لبنان عاد إلى الجلوس على مقاعد الانتظار...

في غمرة الانسداد السياسي الذي يحوط بالأزمة اللبنانية وتعثّر المساعي والمحاولات الجارية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي مدخلاً لحلّ هذه الأزمة، سادت في الآونة الأخيرة توقّعات بحصول مفاجآت من شأنها أن تكسر هذا الانسداد، أو تطلق مرحلة جديدة على مستوى لبنان والمنطقة، ولكن أحداً لم يكن يتوقّع أن تكون المفاجآت من النّوع الفلسطيني، وإنما من نوع الداخل اللبناني أو على مستوى الحركة الديبلوماسية الجارية إزاء الأزمات السائدة في المنطقة وتداعيات الاتّفاق السعودي ـ الإيراني عليها.

لكن أمّا وقد جاءت المفاجأة فلسطينية وبهذا الحجم الكبير الذي من شأنه أن يغيّر وجه المنطقة، فإنّ لبنان عاد إلى الجلوس على مقاعد الانتظار أكثر فأكثر لأنّ عملية "طوفان الاقصى" فرضت وضع ملفّ استحقاقه الرئاسي جانباً، وربّما ملف النزوح السوري أيضا رغم تفاعلاته الخطيرة، ترقّباً لما سيرسو عليه "الطوفان الفلسطيني" ومعرفة ما سيجرفه معه إلى حيث سينتهي ويستقرّ، وهو الأمر الذي سيستغرق وقتاً لا يمكن أحد التكهّن بمداه، فضلاً عن تداعياته على لبنان والمنطقة عموماً.

"الطوفان" هو بداية لحرب كبرى مفتوحة ستعمّ المنطقة

ولكن الواضح أنّ اللبنانيين بقواهم السياسية المنقسمة سياسياً عمودياً حول الاستحقاق الرئاسي وغيره من الاستحقاقات، انقسموا في الموقف من "طوفان الأقصى" إلى ثلاثة اتجاهات:

ـ الأول، يؤيّد "الطوفان" بشدّة ويشدّ على يد الفلسطينيين للذهاب فيه إلى أبعد مدى في ظلّ الوضع الإسرائيلي المضطرب منذ ما قبله، باعتبار أنّ هذا الطوفان يعزّز موقف "محور الممانعة" ودوره في الإقليم عموماً ويدفع بالقضية الفلسطينية قدماً في اتجاه حلّ عادل لها.

ـ الثاني، يؤيّد "الطوفان" بحذر ولكنّه لا يريد للبنان أن يتدخّل فيه لأنّه يكفيه ما يرزح تحته من انهيارات على كلّ المستويات، يمكن أنّ أيّ حرب أن تفاقمها أكثر فأكثر خصوصاَ في حال تدخّل حزب الله من خلال جبهة الجنوب.

المناوشات التي حصلت على جبهة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا دلّت حتّى الآن على أن لا نيّة لتدخّل مباشر لحزب الله في عملية "الطوفان"

ـ الثالث، لا يجاري "الطوفان" ويتوقّع عدم تمكّن القائمين به من تحقيق أهدافهم السياسية، ومنها إلحاق هزيمة ساحقة ماحقة بإسرائيل وإسقاط مشاريع التطبيع الجارية بينها وبين بعض الدول العربيّة، لأنّ الولايات المتّحدة الأميركية لا يمكن أن تسمح بذلك كونه يعرّض مصالحها الكبرى والصغرى في المنطقة للخطر الشديد.

وثمّة اتجاه رابع متشائم، يعتبر أنّ "الطوفان" هو بداية لحرب كبرى مفتوحة ستعمّ المنطقة ويمكن أن تنتهي برسم خريطة جيوسياسية جديدة لها تقوم على توازن بين مشروع "الحزام والطريق" الصيني، والخطّ الأميركي ـ الهندي إلى أوروبا عبر شبه الجزيرة العربية وإسرائيل.

واللافت أنّ المناوشات التي حصلت على جبهة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا دلّت حتّى الآن على أن لا نيّة لتدخّل مباشر لحزب الله في عملية "الطوفان"، فقصفه لمواقع إسرائيلية في تلك المنطقة كان مدروساً بحيث أنّه لم يخرق قواعد الاشتباك المعمول بها في جنوب الليطاني بموجب القرار 1701 للعام 2006، وإنّما كان في المناطق اللبنانية المحتلّة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا) غير المشمولة بهذا القرار، وإنّما بمنطقة عمل قوات "الاندوف" العاملة في الجولان السوري المحتلّ. ولذلك وجّه الحزب من خلال هذا القصف رسالتين: الأولى للفلسطينيين، ومفادها أنّه جاهز للتدخّل من خلال هذه الجبهة في حال صعّد الإسرائيليون حربهم في غزة وغيرها ردّاً على الطوفان. والثانية لإسرائيل، ومفادها أنّها في حال شنّت أيّ حرب انطلاقاً من الجنوب، فإنّه لن يتردّد في اقتحام مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبالتالي نزولاً إلى بقيّة الحدود اللبنانية المحاذية للمستعمرات الإسرائيلية، وذلك في حال خرقت قواعد الاشتباك المعمول بها بموجب القرار 1701، وفي هذه الحال تتوسّع رقعة الحرب لتطاول جبهة الجولان أيضاً، خصوصاً إذا قرّرت إسرائيل اجتياح غزة بريّاً. ويبدو أنّ إرهاصات احتمالات توسّع "الطوفان" باتجاه لبنان وربما سورياً أيضاً، بدأت تظهر حيث أنّ تكرار المناوشات والاحتكاكات على الجبهة الجنوبية اللبنانية تشي بهذا الأمر، خصوصاً وأنّها تتزامن مع حركة نزوح مواطنين من المناطق الحدودية باتّجاه بيروت، وعلى وقع تردّد معلومات عن أنّ المقاومة ربّما تحاول الدخول إلى المستوطنات الإسرائيلية على غرار ما فعل الفلسطينيون في طوفانهم باجتياح المستوطنات في غلاف غزة، خصوصاً مع ارتفاع المؤشّرات إلى أنّ إسرائيل تتجه إلى اجتياح غزّة في ضوء الدعم العسكري والمادي الأميركي الذي حصلت عليه.

وفي انتظار ما يمكن أن ينتهي إليه "الطوفان"، يقول قطب سياسي، لا يمكن توقّع أيّ تطورإيجابي في شأن الاستحقاقات اللبنانية الماثلة وكذلك لا يمكن إجراء أيّ جردة للربح أو الخسارة بين الأفرقاء المعنيين بهذا الاستحقاق، وفي مصلحة أيّ مرشّح ستصبّ نتائج هذا "الطوفان" الذي سيتحوّل في النهاية "طوفاناً سياسياً"، إذا جاز التعبير، فمثلما سيسعى الفلسطينيون إلى الاستثمار السياسي في نتائجه سواء على المستوى الداخلي الفلسطيني أو على مستوى الحلّ المنشود للقضية الفلسطينية، فإنّ الإسرائيليين من جهتهم سيسعون إلى الاستثمار في نتائج "الطوفان" حتّى ولو كانت في غير مصلحتهم، فهم بارعون في استدرار "العطف" الغربي بفعل الدعاية التي يحسنون استخدامها منذ المقولة التي نُسِبت لمسؤول منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري في كلمة له أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة من أنّ العرب "سيرمون الإسرائيليين في البحر"، ويقال أنّ البعض قوّل الشقيري هذا الكلام وأنّ الرّجل لم يقله، ولكنّ الإسرائيليين استعطفوا به الرأي العام العالمي وحصلوا منذ ذلك التاريخ وإلى الآن يحصلون على الدّعم الدولي والغربي عموماً في مواجهة الفلسطينيين والدّول العربية قاطبة.

على أنّ البعض يقول أنّه تحت وطأة "الطوفان الفلسطيني" توقّف "الطوفان اللبناني" الخاص بالاستحقاق الرئاسي، وغابت المبادرتان الفرنسية والقطرية عن السّاحة السياسية حضورياً وغيابياً، فتوقّف الحديث عن مواعيد لزيارتي كلّ من الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان والموفد القطري عبد العزيز الخليفي، وكذلك تراجع الحديث عن مهمّة الموفد الأمني جاسم بن فهد آل ثاني الذي لم يعرف ما إذا كان غادر على الدوحة أم لا يزال في بيروت متجولاً بين مختلف الأفرقاء اللبنانيين مستمعاً إلى طروحاتهم الرئاسية ومبدياً لهم ما لديه من أفكار ومن أسماء باتت معروفة، وقد أضيفت إليها أسماء جديدة يحاول المعنيّون من خلالها الدفع إلى خيار ثالث غير رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، في الوقت الذي لم تعلن المعارضة بعد أنّها تخلّت عن تقاطع أطرافها على إسم الوزيرالسابق جهاد أزعور.

لا توقّعات بانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية قريباً

ويكشف معنيّون في هذا السياق إنّ محاولة جرت في الآونة الأخيرة، وقبيل انطلاق عملية "طوفان الاقصى" ركّزت على طرح اسم عضو كتلة فرنجية النيابية النائب فريد هيكل الخازن كمرشّح رئاسي يقبل به الفريق المعارض والبطريركية المارونية (كون آل الحازن هم حرّاس بكركي التاريخيين) في مقابل أن يقبل به "الثنائي الشيعي" وحلفائه كبديل من فرنجية، ولكنّ هذه المحاولة لم تنجح إذ أصرّ "الثنائي" على تمسّكه بدعم ترشيح فرنجية، فيما المعارضة عادت إلى التمسّك بخياراتها، الأمر الذي أعاد الاستحقاق الرئاسي إلى دائرة التعقيد والتعويل على مبادرات خارجية، ولكنّ "طوفان الاقصى" أوقف على ما يبدو كلّ هذه المبادرات، وأعاد خلط الأوراق وتبديل الأولويات في المنطقة، ما يعني أنّ الفراغ الرئاسي في لبنان سيطول ويطول خصوصاً أنّ كثيرين يؤكّدون أنّ "الطوفان" جعل القضية الفلسطينية أولوية الأولويات الإقليمية والدولية في اتجاه إيجاد حلّ لها قبل الدخول في أيّ تطبيع جديد مع إسرائيل. والبعض يقول أنّ هذا "الطوفان" سيشكّل ورقة ضغط إضافية في يد المملكة العربية السعودية بحيث أنّها قد لا تقبل بأيّ تطبيع مع إسرائيل ما لم تلتزم مبادرة السلام العربية التي كان أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في القمّة العربية عام 2002 في بيروت، حيث كان يومها وليّاً للعهد أيام الملك الراحل فهد بن عبد العزيز وهذه المبادرة تقضي بـ"الأرض مقابل السلام" وإعطاء الفلسطينيين دولة عاصمتها القدس.

وفي انتظار كلّ هذا، لا توقّعات بانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية قريباً بحيث سيطوف لبنان انتظاراً، اللهمّ إلّا إذا حصلت مفاجأة جديدة تشكّل "طوفاناً" سياسياً يفرض إنجازاً للاستحقاق الرئاسي، على غرار "طوفان الأقصى" المتوقّع أن يفرض حلاًّ للقضية الفلسطينية في كنف المبادرة العربية للسلام.