لماذا تأخر اللبنانيون في إدراك هذا الخطر الذي يشكله النزوح السوري القديم الذي أرهق لبنان وشعبه واقتصاده وبناه التحتية التي ترهلت كثيرا قبل الموعد، وذلك الذي تمثله الموجة الجديدة من التسلل الجماعي إلى الأراضي اللبنانية؟
كشف المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري مساء الخميس في برنامج تلفزيوني عن أن السوريين في لبنان، من أصحاب إقامات قانونية (نحو نصف مليون) ونازحين (مسجلين وغير مسجلين مليون ونصف المليون) ومتسللين (غير معروفي العدد)، يشكلون 42 في (على الأقل) من مجمل عدد السكان في لبنان. وهذه الأرقام، إضافة إلى أرقام الولادات في مجتمعات النزوح، تمثل خطرا داهما على الديمغرافيا والهوية اللبنانيتين.
إلى جانب ذلك تبرز أخبار عن توقيف الجيش اللبناني مئات من المتسللين السوريين، وعن رد الآلاف منهم وإعادة تسليمهم إلى الجيش السوري. وتبرز أيضا أخبار الدهم المتكرر الذي ينفذه الجيش لعدد من مخيمات النزوح السوري وضبط كميات من الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية. وهذا يشي بأن الأمر ليس مصادفة ولا حدثا عابرا، بل أمر مخطط له. وهو أيضا يشكّل خطرا على الأمن والاستقرار العام.
ثم تبرز أخبار موفور العمالة السورية في المهن والوظائف التي يسمح القانون اللبناني للأجانب بممارستها، وتلك المخصصة حصرا للبنانيين، والفوضى العارمة في سوق العمل، ولا سيما في القطاع الصناعي حيث بات العمال السوريون يفوقون العمال اللبنانيين عدداً. وهذا أيضا يشكّل خطرا على الاقتصاد اللبناني وعلى المجتمع خصوصا إذا كان العامل اللبناني لا يجد وظيفة.
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الاكتظاظ إلى مشاكل بين السوريين أنفسهم وبينهم وبين اللبنانيين في الأحياء والمعامل والطرقات وفي كل النواحي الحياتية، كمثل الإشكال والتضارب في منطقة الدورة أو في منطقة بحمدون وفي العديد من المناطق غيرها والتي احتاج حل!ها إلى إرسال قوة من الجيش.
لماذا تأخر اللبنانيون في إدراك هذا الخطر الذي يشكله النزوح السوري القديم الذي أرهق لبنان وشعبه واقتصاده وبناه التحتية التي ترهلت كثيرا قبل الموعد، وذلك الذي تمثله الموجة الجديدة من التسلل الجماعي إلى الأراضي اللبنانية؟
والجواب أن الجميع في لبنان مسؤولون لأنهم استثمروا في خلافاتهم السياسية واستخدموا النزوح السوري والحرب في سوريا أداة وسلاحا في خلافاتهم الداخلية.
الحكومة مسؤولة لأنها فشلت في اتخاذ موقف موحّد. وكلما كانت تنجح في الوصول إلى موقف كان هذا الموقف مجوّفا لأن التأييد لم يكن تأييدا كاملا ولا كان تأييدا صادقا. وثبت أن الحكومات كانت تتذرع بالانقسام بين أعضائها لتمتنع عن محاولة اقتراح الحلول أو تحاول لرفع العتب.
الأحزاب مسؤولة لأن كلا منها قدّم مصلحته الذاتية على المصلحة العامة وناور ليقدّم صورة إيجابية فيما كان يعمل في الخفاء لتقويض الأحزاب المنافسة. ولا يزال النقاش حاميا بين الفريقين السياسيين المتخاصمين وصاحبي الموقفين المتعارضين من الحرب في سوريا في شأن مَن مِن اللبنانيين أيّد من في سوريا. فحزب الله ومؤيدوه يأخذون على أخصامهم تأييدهم المعارضة السورية المسلحة بكل أطيافها، وهم يأخذون عليه إقحام نفسه في المعركة لإنقاذ النظام في سوريا خدمة لأجندة خارجية يحمّلونه مسؤولية استجلاب ردود الفعل على اللبنانيين.
المسؤولون عن القطاعات الإنتاجية مسؤولون لأنهم سارعوا إلى توظيف العمالة السورية التي تكلفهم أقل مما يكلفهم اللبنانيون، متحججين بأن اللبنانيين لا يعملون في كل الوظائف المتاحة.
البلديات بمعظمها مسؤولة لتقاعسها عن القيام بما يفرضه عليها القانون ولتركها الحبل على غاربه طمعا بالاستفادة من الرسوم والضرائب المحلية.
والناس العاديّون مسؤولون أيضا. فهم في السنوات الأولى للنزوح سارعوا إلى تأجير منازل وغرفا يملكونها لنازحين سوريين كانت تصلهم مساعدات بالعملة الصعبة من وكالات الأمم المتحدة. وهم، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية التي اندلعت منذ أربع سنوات وستدخل الأسبوع المقبل سنتها الخامسة، استمرّوا في تأجير مزيد من السوريين شققا وغرفا جاهزة وغير جاهزة، طمعا بمردود مالي بالعملات الصعبة.
والموقف الدولي، بما فيه موقف الوكالات المعنية في الأمم المتحدة مسؤول أيضا إذ أنه لأسباب سياسية واضحة كان متصلبا في رفضه المطلق لأي عودة للنازحين السوريين إلى بلادهم حتى بعد توقف الأعمال العسكرية، مشترطا توافر ظروف ليست متاحة لا في الوقت الراهن ولا في المستقبل المنظور. وإصرار الأمم المتحدة على إبقاء السوريين في لبنان يستند إلى المواقف الواضحة في هذا المجال للدول المانحة المؤثّرة في السياسة الدولية وفي قرارات الأمم المتحدة.
يتبيّن إذاً أن الدول المانحة تستخدم النازحين سلاحا للضغط على الحكومة السورية وعلى الدول المجاورة التي تستضيف النازحين السوريين.
الآن اعترف وزير الخارجية اللبناني بأنه يحاول أن يشرح لوكالات الأمم المتحدة وللدول المانحة حجم الخطر الذي يمثله ثقل النزوح السوري على لبنان. وهو الآن يقول إن على العالم، وخصوصا أوروبا، أن يتنبه إلى أن انهيار الوضع في لبنان سيغرق أوروبا بسيل من النازحين السوريين على غرار موجات المهاجرين غير الشرعيين من الشواطئ الأفريقية، وقد لا تنفع معها المعالجات الحالية.
وكأن الأمم المتحدة ووكالاتها والدولَ المانحة لا تعرف هذه الحقائق.
لأسباب سياسية أبقت الحكومات السابقة معالجة ملف النازحين في الإطار الأمني.
لأسباب معروفة لم تقفَل الحدود البرية بين لبنان وسوريا وظلت متاحة أمام التهريب والتسلل مع أن طرقها كانت معروفة ومرصودة ومعظم من كان يوقفون عليها كانوا يُترَكون بأمر قضائي.
ولأسباب معروفة أيضاً أصبح الجميع مقتنعين أن ما كان متاحا في موضوع عودة النازحين السوريين لم يعد متاحا الآن. فلبنان عاجز ولا تأثير لديه ويعيش على التسول والاستجداء وسوريا غير قادرة أو غير راغبة في استعادة النازحين.
يعتقد الكثيرون أن الحل خرج من يد اللبنانيين والسوريين. لكنّ هناك اعتقادا راسخا أيضا بأن انهيار الوضع في لبنان قد يحدث في أي لحظة تحت وطأة الضغوط المتفاقمة. وإذا وقع الانهيار قد يخرج الوضع أيضاً عن قدرة المعالجين.