تعود صياغة مصطلح ديجافو إلى الفيلسوف الفرنسي إميل بوراك الذي تناول الظاهرة عام 1876 في كتابٍ بعنوان "مستقبل العلوم النفسية"، فاتحاً الباب أمام المختصّين لتشريحها لاحقاً.
افتراضٌ أقرب منه إلى التوقّع: معظم قارئي هذه الكلمات سبق وصادفهم موقفٌ شعروا أنّهم مرّوا به من قبل. فأهلاً بكم إلى ظاهرة الديجافو (Déjà Vu). التقديرات تشير إلى أنّ ما بين 70 و90% من الناس اختبروا الظاهرة أقلّه مرّة واحدة في حياتهم. والعبارة الفرنسية فصّلها المختصّ بعِلم النفس العصبي، البروفيسور فيرنون نيبي، بـ"انطباع غير مناسبٍ ذاتياً بوجود ألفة بين تجربة حاضرة وماضٍ غير محدّد". الإحساس العابر ذاك – أو وهْم سبق الرؤية - قد يطال شخصاً، أو مشهداً أو حديثاً أو فكرةً. لكن للديجافو نقيضتها أيضاً، وللاثنتين خباياهما.
تعود صياغة مصطلح ديجافو إلى الفيلسوف الفرنسي إميل بوراك الذي تناول الظاهرة عام 1876 في كتابٍ بعنوان "مستقبل العلوم النفسية"، فاتحاً الباب أمام المختصّين لتشريحها لاحقاً. وهو ما سعى إليه أصلاً فلاسفة ومفكّرون من أفلاطون – الذي رأى فيها إشارة إلى وجود حيوات سابقة – إلى سيغموند فرويد وكارل يونغ اللذين ربطاها بديناميات العقل البشري (اللاواعي تحديداً).
يشبّه جايمس جيوردانو، بروفيسور عِلم الأعصاب في جامعة جورجتاون، عمل دماغنا بآلة زمكانية تأخذ، في معرِض التخطيط للمستقبل، ما في حاضرنا وتربطه بشيء ما مشابه – أو غير مشابه – من ماضينا. أمّا الديجافو، فيُرجَّح ارتباطها بمنطقة في الجزء النصفي من الدماغ تُسمّى "المهاد" (Thalamus)، تتمّ فيها إعادة بثّ الإشارات الحسّيّة، كالسمع والذوق واللمس إضافة إلى تنظيم الوعي والنوم واليقظة، إلى القشرة الدماغية الخارجية لأغراض التفسير والمعالَجة. وفي حال تفاوتت سرعة التفاعلات تلك، يخالجنا شعور باختبار الحاضر كما لو أنّه ذكرى ماضية، ما يمنحنا شعوراً زائفاً بالألفة.
وهذه بعض الملاحظات، بحسب الإحصاءات. الحالة تصيب غالباً من هُم بين الـ15 و25 عاماً - خصوصاً مساءً وفي عُطَلْ نهاية الأسبوع - بمعدّل مرّتين سنوياً، وتتراجع وتيرتها مع التقدّم بالعمر. ويلاحَظ أنّ الأكثر عرضة لها هُم من يتمتّعون بمستوى تعليميّ عالٍ، كثيرو السفر، متذكّرو الأحلام وحاملو الأفكار الليبرالية. أمّا أبرز المسبّبات، فالإجهاد والإرهاق والإصابة بالصرع والصداع النّصفي والاضطرابات التي تؤثّر على الذاكرة. في حين أنّ تكرّرها المتزايد مترافقة مع حالات ارتباك، صداع، فقدان وعي ووهن عام، قد يؤشّر إلى مشاكل صحيّة ما.
نعكس الصورة، فنحصل على ظاهرة نقيضة - أقلّ احتمالية، أكثر غرابة وأشدّ وتيرة مع التقدّم بالعمر - تُعرَف بـ"الجامي فو" (Jamais Vu). العبارة، الخارجة من القاموس الفرنسي هي الأخرى ويُشار إليها أحياناً بالمألوف المنسي، تعني عدم القدرة على تذكُّر حالة ما سبق ومرّ بها المرء لدى حدوثها مجدّداً. ومن الأمثلة، عدم التعرّف إلى الوجوه والتيهان داخل الأمكنة المألوفة. نعود في السياق إلى بدايات القرن الماضي، وتحديداً إلى عالِمة النّفس الأميركية، مارغريت فلوي واشبورن. فقد قاربت الحالة في تجربة أظهرت فقدان الكلمات، التي تمّ التحديق بها لمدّة ثلاث دقائق، قوّتها الترابطية. وبيّنت أنّ الكلمات اتّسمت بالغرابة وبدت مجزّأة، فاقدة معناها، مع مرور الوقت.
تجربة العالِمة الأميركية لم تنل كافي الاهتمام حينها. فمرّت السنوات ليبرز رأي شائع – لكن غير مؤكّد - يربط الظاهرة بمرض وهم كابجراس - Capgras Delusion - وهو اضطرابٌ متّصل بالشيزوفرينيا يقود المرء للتوهّم بأنّ أحدهم انتحل، لأسباب مغرضة، شخصية أحد المقرّبين. أمّا التفسير المتعارَف عليه، فيعزوها إلى التكرار المزمن وعلاقته بديناميات العقل. وإذا كانت "الديجافو" تفتح نافذة على آليّة عمل نظام الذاكرة حيث يفكّ الجزء المرتبط بالألفة من الدماغ التزامن مع الواقع كوسيلة للتحقُّق من الحقائق، فالتكرار يخلق حالة أكثر غرابة ومعاكِسة تماماً. وهذا ينقلنا إلى بحثٍ نُشر سنة 2020 لفريق دولي بقيادة الدكتور كريس مولان، الباحث في مختبر عِلم النفس والإدراك العصبي بجامعة غرونوبل – ألب الفرنسية، حول الأحاسيس التي تختلج مكرّري الكلمات، ليفوز بجائزة إيغ نوبل في الأدب الشهر الماضي.
خلال التجربة، تعيّن على المشاركين الكتابة بأقصى سرعة – كلمة شائعة واحدة في مرحلة أولى، وأكثر من كلمة في مرحلة ثانية - مع إمكانية أخذ استراحة لأسباب كالملل والتعب. وكان التوقّف عن الكتابة، بسبب مراودة المشاركين شعور غريب (مألوف منسيّ)، خيار أكثريّتهم في الحالتين. وهذه الخلاصة: التحوّلات في المعاني وخسارة الكلمات لمعناها، نتيجة التكرار، إنّما تترافق وشعور غير واقعي بالجامي فو. والإحساس بعدم الواقعية ذاك ما هو فعلياً سوى اختبار للواقع بعينه. فالمرونة إحدى سمات الأنظمة المعرفية التي تسهّل توجيه الانتباه إلى حيث يجب بدلاً من التيهان في مهام متكرّرة. وهذا، ربطاً، ليس ببعيدٍ عن عالَم اضطراب الوسواس القهري، حيث يستحيل التحقُّق من أمر ما بشكل متكرّر، ما يجعل المهمّة عديمة المغزى ويُقحمها في حلقة مفرغة من محاولة التحقُّق والفشل في التأكّد.
الديجافو والجامي فو، إذاً، انعكاسٌ واضحٌ لديناميات الدماغ، وإن كانتا على طرفَي نقيض. وبدورهم، ليس علماء الفيزياء النظرية، وفي طليعتهم الأميركي ميشيو كاكو، بعيدِين عن هذا المنطق. هؤلاء يتحدّثون هنا عن شكلٍ من أشكال الاختلال في الذاكرة – أو المصفوفة، لعشّاق فيلم The Matrix يولّده استنباط أجزاء من الذكريات المخزونة دماغياً لدى الانتقال إلى بيئة شبيهة بسياقٍ سبق اختباره. لكنّ الفيزياء النظرية تسأل أكثر. فماذا لو كنّا أمام إمكانية التنقّل بين أكوان مختلفة حيث تحاول ظواهر مشابهة الهمس في أدمغتنا عن موقعنا في تلك الأكوان؟ يجيب كاكو: "نحن عبارة عن موجات قابلة للاهتزاز. نتذبذب أحياناً في انسجام مع تلك الأكوان، ونعجز عن ذلك أحياناً أخرى. وقد تفسّر هذه النظرية تجاربنا غير العادية". فَلنُعِد صياغة السؤال: هل تعكس التجارب تلك تداخلاً وجيزاً لِوَعيِنا مع نسخة كونية موازية منّا أو أكثر، يا تُرى؟