إن مجرّد التخطيط أو الإيحاء أو التلويح بهجوم على روسيا من الجبهة الجنوبية (حتّى لو لم يحصل ذلك فعلاً) سينعكس سلباً على قدراتها العسكرية في الحرب ضدّ أوكرانيا

قد تكون الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي إبقاء عين روسيا "السّاهرة" على جبهتها العسكرية مع أوكرانيا. غير أنّ لروسيا - التي تعتبر أكبر دولة في العالم بحيث تمتدّ على معظم أوراسيا الشمالية مشكّلة بذلك جسراً طبيعياً بين قارّتي أوروبا وآسيا - عيناً ساهرة ثانية، لا تقلّ أهمية عن سابقتها، مهمّتها ترقّب حدودها الجنوبية الممتدّة على طول جبال القوقاز وعبرها، حيث تقع أرمينيا وأذربيجان وجورجيا.

حذار الجبهة الجنوبية

تبعاً لمفهوم العلوم العسكرية، تلعب جبال القوقاز التي تفصل روسيا عن أرمينيا وأذربيجان وجورجيا دور "المدافع الطبيعي" عن منطقة استراتيجية مهمّة في روسيا. وتوصل المنطقة الواقعة شمال غرب هذه الجبال إلى بحر آزوف والحدود الأوكرانية، بالقرب من منطقة دونباس الأوكرانية الغنية بالفحم والحديد والصلب، والتي احتلّتها روسيا بعد أن كانت منطقة نزاع شديد على مرّ السنين. وإلى الشمال الشرقي يقع نهر الفولغا ومدينة "ستالين غراد" التي شهدت أشرس المعارك في تاريخ البشرية، والتي أعيدت تسميتها بـ"فولغوغراد" عام 1961 أثناء حكم الرئيس الأسبق للاتحاد السوفياتي "نيكيتا خروتشوف"، وذلك للحدّ من وهج "ستالين".

بناء لما تقدّم، فإن مجرّد التخطيط أو الإيحاء أو التلويح بهجوم على روسيا من الجبهة الجنوبية (حتّى لو لم يحصل ذلك فعلاً) سينعكس سلباً على قدراتها العسكرية في الحرب ضدّ أوكرانيا. من هنا تُعتبر حماية جبهة القوقاز من أيّ محاولة اختراق مهمّة أساسية تُسند إلى أمر عمليات الجيش الروسي، الذي لم ولن تغيب عنه صورة الذين سبقوه من الجيش الأحمر في شباط 1942 حين هاجموا "مجنبة" الجيش السادس الألماني من أجل تحرير "ستالين غراد". لذا، على الجيش الروسي أن يعمد حالياً، لا سيّما من الناحية العسكرية، إلى اختراق حدود شمال القوقاز لحماية مَجْنباته، نظراً لأهمية هذه الجبهة وتأثيرها على الواقع العسكري.

بين حروب الماضي وصراعات الحاضر

على خطّ آخر، سجّلت الذاكرة التاريخية حربين بين روسيا والشيشان: الأولى بين عامي 1994 و1996، أما الثانية فبين عامي 1999 و2000. وانتهت هاتان الحربان إلى وضع الشيشان كاملةً تحت سيادة روسيا حيث أصبحت الحليف الأول لها. ليس هذا فحسب، إذ إنّ روسيا، وفي السابع من آب 2008، خاضت حربًا برّية وبحرية وجوية ضدّ جورجيا للحدّ من تقرّب الأخيرة من الغرب ودعم نهجه الديمقراطي. وقد ساعد انتصار روسيا على البلدان المتاخمة لحدودها على برمجة نظرة "بوتين" لأهمّية المناطق الحدودية.

ومن الماضي إلى الحاضر حيث قامت أذربيجان مؤخّراً – وهي الدولة الغنية بالنّفط - بإرسال قوات عسكرية تمكّنت من السيطرة على منطقة "ناغورنو كاراباخ" ما نتج عنه تهجير ما لا يقلّ عن 120 ألف مواطن أرمني مطلع الأسبوع الجاري، تزامناً مع تحذير أرمينيا من إمكانية مواجهة عمليات تطهير عرقية. يُذكر أن"ناغورنو كاراباخ" هي منطقة صغيرة تقع بين أذربيجان وأرمينيا الفقيرة نسبياً، ويقطنها سكان من العرق الأرمني.

هل تُخلط الأوراق مجدداً؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ تداعيات ما حصل لن تنعكس تغييراً على أرض الواقع، لكن إن دلّت على شيء، إنّما تدلّ على مستوى ملموس من التوتّر قد يؤدّي إلى صراع في المستقبل القريب. ورغم أنّ روسيا ما زالت تحتفظ بقوة كبيرة لحفظ السلام في المنطقة التي تتسم حالياً بالهدوء، غير أنّ هذه القوة قادرة على التحرّك ضد أرمينيا، أو إحياء الحرب الجورجية، متى شاءت. فهل يبقى أمام أرمينيا أيّ خيار سوى التفاوض على صفقة مع الروس أو اللجوء إلى الأميركيين؟

من جهتها، يهمّ الولايات المتحدة الأميركية الاحتفاظ بشيء من قدراتها في هذه المنطقة ما يساعدها على التهديد باختراق شمال القوقاز. الخطوة شبه مستحيلة لكن، وإن حصلت، فستكون دون أدنى ريب مناورة خطيرة في وقت تعي روسيا تماماً رغبة أميركا في القيام بما هو خطير وغير مدروس. وبما أن الحرب مستمرّة في أوكرانيا لصالح روسيا، لا مانع من أن تستخدم الولايات المتحدة ورقة رابحة أخرى لإجراء مفاوضات مع الأخيرة للحدّ من تدهور الأوضاع في أوكرانيا.

ختاماً، يتمحور السؤال الأبرز حول ما إذا كانت كلّ من جورجيا وأذربيجان مستعدّة للتقرّب من الولايات المتحدة مقابل تزويدها بالمساعدات العسكرية، لا سيّما وأنّ أذربيجان وروسيا تبدوان مرتبطتين بشكل وثيق، ما ينسف فرضية تقارب أذربيجان من الولايات المتحدة ويجعلها شبه مستحيلة.

نعم. لقد نجحت روسيا في تأمين منطقة القوقاز عسكرياً، محوّلة ما لم يكن بالحسبان إلى واقع حقيقي، وها هي حدودها الجنوبية مغلقة حالياً، لكن على أيّ احتمالات ستشرّع في المستقبل القريب... فتلك حكاية أخرى.