أدّت الهزيمة الجديدة للأرمن في الإقليم إلى اندلاع تظاهرات ضدّ حكومة باشينيان في يريفان
قبل أيّام اندلع القتال مجدّداً في إقليم ارتساخ، حين هاجمت القوات الأذربيجانية مواقع قوات الدفع المحلية الأرمنية، التي وقفت وحيدة في ميدان القتال بعدما تخلّت عنها الحكومة الأرمنية بقيادة الرئيس نيكول باشينيان ووقوف روسيا وإيران على الحياد.
وقد أدّت الهزيمة الجديدة للأرمن في الإقليم إلى اندلاع تظاهرات ضدّ حكومة باشينيان في يريفان. لذا فإنّ هذا الأخير حاول إلقاء اللوم على روسيا بالتسبّب بهذه الخسارة، ووصل به الحدّ إلى طلب المندوب الأرمني في الأمم المتحدة إلى الدّعوة لسحب القوات الروسية لحفظ السلام في ارتساخ، واستبدالها بقوات حفظ سلام فرنسية وأميركية.
لكنّ الجدير ذكره أنّ روسيا لم تكن لتقف موقف الحياد لولا التحوّل في موقف الحكومة الأرمنية بقيادة باشينيان، والتي أدّت إلى زعزعة العلاقات الاستراتيجية بين يريفن وموسكو بعد العام 2018. فلقد وصل باشينيان إلى السّلطة عبر ثورة ملوّنة أطاحت بالحكومة الأرمنية التي سبقته، والتي كانت على علاقة طيبة بروسيا. ومنذ ذلك الوقت بدأ باشينيان بدفع أرمينيا إلى التقارب من الغرب، وصولاً إلى إقامة علاقات استراتيجية معها والوقوف في صفّ الدول الغربية ضد موسكو في الحرب الجارية في أوكرنيا، وتنظيم مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأميركية في منتصف شهر أيلول 2023.
على الرّغم من ذلك فإنّه لولا دور قوات حفظ السلام الروسية في الإقليم لكان الوضع سيكون أسوأ بكثير مما هو عليه، إذ أنّه بوساطة فرقة حفظ السلام الروسية المتمركزة في ناغورنو كاراباخ، تمّ التوصل إلى اتّفاق بشأن وقف كامل للأعمال العدائية اعتبارًا من يوم 20 أيلول 2023 وانسحاب الوحدات والأفراد العسكريين المتبقّين من القوات المسلحة لجمهورية أرمينيا من منطقة انتشار قوات حفظ السلام الروسية، وحلّ القوات المسلّحة لجيش الدفاع في ناغورنو كاراباخ ونزع سلاحها بالكامل.
المشكلة الرئيسية في إقليم أرتساخ تكمن في أن لا أحد يهتمّ لأمرها إلّا سكّان المنطقة وروسيا التي تمتلك قاعدة عسكرية في الإقليم. إلّا أنّ موسكو تبقى مكبّلة بسياسة باشينيان الذي اعترف قبل ستة أشهر بسيادة أذربيجان على الإقليم. ويعتبر باشينيان أنّ آرتساخ تمثل بالنّسبة له عقبة تجاه التقارب مع الغرب والاستفادة من استثماراته الموعودة.
ومن هنا كان موقف باشينيان لذي أعلن بأنّه لن يتدخّل بالصراع في ارتساخ ما جعل الهزيمة محتومة في هذ الإقليم، خصوصاً أنّ موقفه سحب الشرعية عن أيّ إمكانية تدخّل عسكري روسي أو إيراني إلى جانب الأرمن.
وترى واشنطن في ما يجري في ارتساخ وأرمينيا فرصة لها، ليس فقط لتعزيز حضورها في منطقة القوقاز، بل أيضاً فرصة لفتح جبهة جديدة في الجنوب في مواجهة روسيا، تضاف إلى جبهة أوكرانيا، والجبهة المستجدّة التي فعّلت في الشمال في منطقة البلطيق وعلى كامل الحدود الروسية الفنلندية، بعدما انضمّت فنلندة إلى حلف شمال الأطلسي الناتو.
وفي ما يتعلق بأوروبا وعلى رأسها فرنسا، فإنّ اجتذاب أرمينيا إلى صفّها يجعلها أقرب إلى منابع النفط في القوقاز ووسط آسيا، خصوصاً في ظلّ المحاولات الأوروبية لإيجاد مصادر نفط وغاز بديلة عن النّفط والغاز الروسيين.
هذا، شكّل فرصة تاريخية لأذربيجان للمبادرة لحسم الصراع على ارتساخ لصالحها، وهذا يفيدها لجهة اقترابها أكثر من تركيا في محاولة لضمن تواصل برّي معها، علماً أنّ البلدين يرجعان إلى جذر قومي واحد، إذ كليهما من الشعوب التركية. وهذا يجعل من الممكن لتركيا أن تستخدم أذربيجان كجسر للعبور إلى الضفّة الشرقية من بحر قزوين وخصوصا إلى تركمانستان ومنها إلى جمهوريات آسيا الوسطى.
كذلك فإنّ أذربيجان استفادت من موقف باشينيان المتقارب مع الغرب لتتقارب هي بدورها مع موسكو وطهران. وبالنسبة لموسكو فإنّ العلاقة مع أذربيجان مهمّة بسبب النفط والغاز اللذين تمتلكهما هذه الجمهورية التركمانية ذات الغالبية الشيعية. كذلك فإنّ أذربيجان باتت تشكّل معبراً لخطّ شمال جنوب، الذي يفترض أن يعبر من الأراضي الروسية عبر أذربيجان إلى إيران ومنها إلى الخليج والمحيط الهندي.
أمّا بالنّسبة لطهران فإنّ العلاقة مع أذربيجان تعتبر أكثر حساسية. فهنالك نحو 16 بالمئة من الإيرانيين من أصول أذربيجانية يتمركزون في شمال غربي إيران، ومن ضمنهم نخب حاكمة على رأسهم مرشد الثورة الإسلامية الإمام علي الخامنئي. كذلك فإنّ من مصلحة إيران أن تتقارب مع أذربيجان، لتحاول إبعادها عن إسرائيل التي تحاول تعزيز حضورها في هذا البلد، لتصبح على مقربة من شمال غرب إيران، حيث تسكن أقلّية سنّية كبرى من الأكراد تشكّل 10 بالمئة من سكان إيران. وبذلك تصبح طهران أقدر على احتواء محاولات إسرائيل لدعم الحركات الانفصالية في شمال غرب البلاد.
عدا عن ذلك فإنّ علاقات طيّبة مع أذربيجان تسمح لطهران لتعزيز علاقاتها مع تركيا، وتقوية وتدعيم الجسر الذي تقيمه معها للانطلاق عبر شرق الأناضول إلى شرق المتوسط وشرق أوروبا. وإن كانت إيران مستعدّة في السابق للمخاطرة بكلّ هذا لدعم أرمينيا التي تجمعها بإيران روابط قومية (الشعبان يعودان إلى أصول هندو أوروبية) ولأسباب جيوسياسية، فإنّ سياسة باشينيان القاضية بالتقارب مع الغرب على حساب العلاقات التاريخية لأرمينيا مع روسيا وإيران، عزّزت توجه إيران لتوثيق علاقاتها مع أذربيجان.
مجمل هذه التطوّرات لعبت لغير صالح أرمينيا، وتحديداً أرمن ارتساخ، في ظلّ تردد الحلفاء الأقربين لنجدتهم نتيجة سياسيات باشينيان، وفي ظلّ عدم استعداد الولايات المتحدة للتورّط في صراع بعيد عن حدودها، عدا عن عدم قدرة أوروبا وعلى رأسها فرنسا بالتورّط مباشرة في النزاع، في ظلّ انشغالها بالدفاع عن موقعها المهدّد في غرب إفريقيا، من قبل أنظمة إفريقية تمرّدت على نفوذها، وفي ظلّ نفوذ صيني وروسي متصاعد في هذه المنطقة على حسابها.
كل هذا أحسنت باكو قراءته، واستغلّته للسيطرة على إقليم ارتساخ الأرمني، فيما أخطأ باشينيان الحساب وضيّع ارتساخ، في وقت تواجه أرمينيا التي لا يتعدّى عدد سكّانها 3 ملايين نسمة، أكثر من 10 ملايين أذربيجاني إلى الشرق وأكثر من 80 مليون تركي إلى الغرب.