مطلع العام الجاري، بدأ "زيلينسكي" بحملة إقالات واسعة، بالتّوازي مع إجبار العديد من المسؤولين على تقديم استقالاتهم، ويأتي هذا التدبير بعد كشف قضايا فساد بعشرات ملايين الدولارات من عقود واتفاقيات لتأمين المستلزمات اللوجستية للجيش الأوكراني المتواجد على جبهات القتال.
أعلن الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي عن إقالة وزير الدفاع "أليكسي ريزنيكوف" وتعيين "رستم أوميروف" (41 عاماً)، الذي تعهّد لدى استلامه مهماته الجديدة القيام بكلّ شيء لتحرير كلّ شبر من الأراضي الأوكرانية التي تحتلّها روسيا. واعداً بأنه سيقوم بكلّ ما هو ممكن وغير ممكن من أجل انتصار أوكرانيا. وأوضح أنّ مخطّطه سيرتكز على النّصر دون مساومات أو محادثات أو وساطات. هذه الخطوة التي اتّخذتها القيادة السياسية الأوكرانية لا تتعلّق بالقلق الذي يشعر به "زيلينسكي" تجاه وزير دفاعه الذي تمّت إقالته، بقدر ما تتعلّق بحقيقة أنّ أوكرانيا وصلت إلى مرحلة حرجة في حربها ضدّ روسيا. وهو ما استدعى على الأرجح مسارعة الولايات المتحدة الأميركية وعبر البنتاغون، إلى الإعلان عن مساعدات عسكرية لكييف بقيمة 175 مليون دولار تتضمّن ذخائر اليورانيوم المنضب من عيار 120 مليمترا لدبابات أبرامز الأميركية.
أسباب الإقالة:
مطلع العام الجاري، بدأ "زيلينسكي" بحملة إقالات واسعة، بالتّوازي مع إجبار العديد من المسؤولين على تقديم استقالاتهم، ويأتي هذا التدبير بعد كشف قضايا فساد بعشرات ملايين الدولارات من عقود واتفاقيات لتأمين المستلزمات اللوجستية للجيش الأوكراني المتواجد على جبهات القتال. وبحسب القيادة السياسية الأوكرانية، فإن وزير الدفاع المقال دفع ثمن تجاوزات فساد نائبه "فياتشيسلاف شابوفالوف" الذي كان مسؤولاً عن الدّعم اللوجستي، بالإضافة إلى نقاط أساسية أهمها:
- نتيجة لاقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة والمقرّر اجراؤها خلال شهر آذار من العام 2024، و"زيلينسكي" أصبح بحاجة ماسّة الى حلفاء داعمين له لكي يتمكّن من التربّع مجدداً على كرسي الحكم لفترة رئاسية أخرى.
- فشل جميع الهجومات المضادة التي بدأت منذ حوالي 3 أشهر، ودخول المعارك فصل الشتاء الذي يحتاج الى تكتيكات خاصّة وتجديد معنويات الجيش بتعيين وزير للدفاع لم يتجاوز عمره الـ 41 عاماً.
- وزير الدفاع الجديد "أوميروف" لعب دوراً إيجابياً في المباحثات المتعلقة بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود.
- الحديث المتداول باستمرار عن فساد مستشري في وزارة الدفاع.
- وجود "أوميروف" سابقاً ضمن فريق التفاوض مع روسيا، وهذه ستكون ورقة "مستورة" بيد "زيلينسكي" يمكن أن يكشفها عند الحاجة.
قبل إقالة "ريزنيكوف" من منصبه، التقت مجموعة من كبار الضبّاط الأميركيين مع نظرائهم الأوكرانيين على الحدود مع بولندا، وقد عُقد الاجتماع بطلب من القيادة العسكرية الأميركية التي أصرّت على وجوب تغيير استراتيجية الهجوم المضاد التي كانت معتمدة. وبعد استبدال وزير الدفاع، كانت رسالة ثانية أرسلتها الولايات المتحدة وهي أن الاستراتيجية الأوكرانية ستفشل، وأصرّت على ضرورة اعتماد استراتيجية جديدة ودمجها بالاستراتيجية القديمة. ومن الواضح أن "زيلينسكي" استمع بتمعّن إلى ما قاله الأميركيون.
في المراحل الأولى من الحرب كانت استراتيجية أوكرانيا جيّدة، حيث إنّها وبدلاً من محاولة عرقلة التقدّم الرّوسي باستخدام قوّات نظامية في حرب تقليدية يمكن لروسيا تدميرها بسهولة، قامت أوكرانيا بتشكيل قوّاتها على وحدات صغيرة، مُنحت كلّ منها درجة عالية من الحرّية باستخدام مكثّف لقوات صغيرة تتميّز بالمرونة وسهولة الحركة للتوصّل إلى القيام بحرب عصابات، يمكنها صرف اهتمامات الجيش الرّوسي عن الأهداف الاستراتيجية. وكان الهدف هو التركيز على المستوى التكتيكي بدلاً من إنشاء قوة واحدة متكاملة ذات قيادة مركزية. ولقد نتج عن الهجوم الروسي الأول فشل ذريع، حين اشتبكت قوة نظامية روسية كبيرة مع قوات أوكرانية أصغر بكثير تعرضت لهزيمة كبيرة بعد المواجهة، وهذا ما جعل من المستحيل على روسيا تدمير الجيش الأوكراني بالسرعة التي تمّ التخطيط لها.
إنّ معرفة الجيش الأوكراني بالتضاريس التي كان يقاتل عليها، مكّنت مجموعاته الصغيرة من تحديد مواقع القوات الروسية والاشتباك معها وإلهائها، ومن ثمّ التخفي والانتقال إلى جبهات أخرى.
كان من المجدي أن تقوم موسكو بإعادة النظر في خساراتها المتتالية على الأرض وتغيير تكتيكاتها، وهذا ما لم يحدث. وبدلاً من ذلك، عمد الجيش الروسي ولأكثر من عام محاولاً الاستيلاء على المدن بدلاً من تدمير الجيش الأوكراني أو حتّى تدمير الروح المعنوية للجيش ولأوكرانيا والأوكرانيين، ونتيجة لذلك استعانت القيادة الروسية بمنظمة "فاغنر"، ولكنّ بالنظر إلى الطريقة التي نفّذت هذه المجموعة هجوماتها، استغرق إخضاع المدن وقت طويل، وهذا ما تسبّب في الإبقاء على تماسك الروح المعنوية الأوكرانية.
ومع تهميش منظمة "فاغنر" أخيراً، أصبحت وزارة الدفاع الروسية هي المسيطرة الآن، وقد عمدت الى إجراء تعديلات في استراتيجيتها واعتمدت على إعادة تشكيل قواتها وحشدها من أجل إجبار الجيش الأوكراني على المواجهة بدلاً من اعتماده عمليات "الكرّ والفرّ" التي اعتمدها سابقاً.
ومع تهميش منظمة "فاغنر" أخيراً، أصبحت وزارة الدفاع الروسية هي المسيطرة الآن، وقد عمدت الى إجراء تعديلات في استراتيجيتها واعتمدت على إعادة تشكيل قواتها وحشدها من أجل إجبار الجيش الأوكراني على المواجهة بدلاً من اعتماده عمليات "الكرّ والفرّ" التي اعتمدها سابقاً. حالياً من المفترض أن تعرف موسكو إلى أيّ مدى وبأيّ طريقة ستقاتل أوكرانيا، وهي فهمت جوهر الاستراتيجية الأوكرانية التي اعتمدتها قوات الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأميريكية، وبالتّالي فإن نسب احتمالات النصر الروسي ارتفعت إلى حدّ ما.
بالمقابل يعتقد حلف "الناتو" إن الجيش الأوكراني الذي يعتمد استراتيجية الدفاع ضد القوات الروسية، سيُهزَم إذا لم يُغيّر استراتيجيته. وبما أنّ هذا الجيش أصبح الآن مجهّزاً بالأسلحة المناسبة ويتمتّع بالخبرة اللازمة للمرحلة التالية من الحرب، فعليه حشد قواته في قوة واحدة أو قوتين قويتين لتكون بمثابة قوّة فعّالة. ونظرًا لامتلاك أوكرانيا المدفعية الحديثة والطائرات بدون طيار والمعلومات الاستخبارية الممتازة، بالإضافة إلى قوة متمرسة في القتال، فقد حان الوقت لكسر التموضع الروسي واختراق واستغلال أيّ ثغرات وتهديد الخدمات اللوجستية الروسية.
أوكرانيا إذاً بدأت باعتماد استراتيجية عسكرية جديدة مدعومة بترسانة أسلحة ومعدات غربية تأمل أن تساعدها في تغيير الواقع على الأرض وإمالة الدفّة لمصلحتها بعد كلّ هذه الفترة من إنهاك الجيش الروسي عبر جرّه إلى حرب شوارع وعصابات. أمّا روسيا على المقلب الآخر فهي كانت مستعدة لحرب بين جيشين، فوجئت بحرب عصابات فاستعانت بـ"فاغنر"، اليوم تفيد المعلومات بتراجع حضور "فاغنر" في أوكرانيا لمصلحة الجيش الروسي، ما يوحي بأنّ موسكو على دراية بطبيعة الاستراتيجية الأوكرانية الجديدة. صحيح أنّ المعلومات هي نصف المعركة، ولكنّ طبيعة المعارك وأضرارها ونتائجها تبقى رهن الميدان. فهل سنكون أمام شتاء بارد في أوروبا وملتهب في أوكرانيا وروسيا، أم أنّ مبادرة ما قد تنزع فتيل التفجير وتعيد الأمور إلى نصابها. الأهم من أيّ جيش سينتصر، هو أيّ خيار ستنتهي إليه الأمور، حرب مدمّرة أم تسوية سلميّة؟ تلك هي المسألة.