يظهر مشهد الشرق الأوسط في عام 2025 معقداً سريعَ العطَب، يعاني من صراعات متجذرة أبرزها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ووقائعَ إقليميةٍ متغيّرة، لا سيّما بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها اهتزازاً لـ "حزب الله" في لبنان وسقوطاً للنظام في سوريا. وقد تكثّف النشاط الدبلوماسي الدولي لوقف إطلاق النار في لبنان ووقف الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وتثبيت الاستقرار في سوريا. ولعل النشاط الدبلوماسي الأبرز كان المؤتمر الدولي الذي استضافته فرنسا والمملكة العربية السعودية في نيويورك (28-30 تموز 2025) والذي أصدر بياناً ختامياً طموحاً يقترح إطار عمل ملموساً للسلام، يرتكز بشكل أساسي على حل الدولتين. وأتى البيان على ذكر لبنان وسوريا وضرورة تثبيت الاستقرار فيهما.
آفاق الدولة الفلسطينية
"إعلان نيويورك 2025" هو أقوى محاولة متعددة الأطراف منذ سنوات لإحياء حل الدولتين، بناء على المبادرة العربية التي أطلقتها السعودية وتم اعتمادها في قمة بيروت العربية عام 2002. تؤكد على المبادئ المعترف بها دولياً، أي الأرض مقابل السلام وسيادة فلسطين على أساس حدود 1967، وتوحيد غزة والضفة الغربية تحت سلطة وطنية فلسطينية موحدة، ووقف التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية المسلحة، وحماية المواقع الدينية وغيرها من الالتزامات. يتضمن البيان إجراءات ملموسة ومحددة زمنياً، مثل وقف إطلاق النار الفوري، وتوحيد الإدارة الفلسطينية، والدعم الدولي لبناء مؤسسات فلسطينية. إلا أنّ التوسع الاستيطاني الإسرائيلي والقضم المستمر للأرض من أصعب العقبات التي تعيق إقامة الدولة الفلسطينية.
حظيت المبادرة بدعم دولي واسع ولكن بوزن دبلوماسي رمزي. فقد أيّدها أكثر من 120 دولة ومنظمة دولية والجامعة العربية، ما يعكس دعوة عالمية قوية للتحرك. إلا أن الحقائق السياسية داخل إسرائيل وفلسطين ورفض الولايات المتحدة للبيان الختامي تقيد بشدة فرص تحقيق الدولة الفلسطينية في مستقبل قريب.
يعارض المجتمع الإسرائيلي بحدّة إطار حل الدولتين حالياً. وأظهرت استطلاعات الرأي الحديثة أن أكثر من 80% يعارضون قيام دولة فلسطينية مع تزايد الدعم لسياسات يمينية تركز على الأمن.
على الجانب الفلسطيني، تشكل الانقسامات السياسية، وخصوصاً سيطرة حماس على غزة ورفضها نزع السلاح، عقبة حرجة أمام توحيد السلطة السياسية والإصلاح الإداري المنشود. وبغياب المصالحة الفلسطينية الداخلية، يبقى بناء مؤسسات الدولة بدون صدى.
بعضّ النظر عن الإرادة السياسية، تبقى آليات التنفيذ ضعيفة. وعلى الرغم من أن البيان استند إلى القانون الدولي والدبلوماسية المتعددة الأطراف لقياس التقدّم، لا يُعرَف الكثير عن الإجراءات المقترحة كالعقوبات أو الضغوط الدبلوماسية اللازمة لضمان الالتزام لأنها غير مجرَّبة بدرجة كافية.
عملياً، من المرجح أن يكون أفضل سيناريو قصير المدى هو وقف إطلاق نار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، إلى جانب جهود استقرار متدرجة مثل تحسينات في المساعدات الإنسانية لغزة والضفة الغربية وبناء مؤسسات فلسطينية محدودة والمشاركة الدبلوماسية الدولية لخلق ضغط على الطرفين.
سوريا ولبنان: ركيزتان للاستقرار الإقليمي
الإشارات الواردة في البيان إلى سوريا ولبنان تسلّط الضوء على أدوارهما الأساسية في الاستقرار الإقليمي. ويزيد الاضطراب في سوريا بعد سقوط نظام الأسد وضعف الاستقرار السياسي في لبنان معادلة السلام في الشرق الأوسط. تعقيداً.
تركز سوريا على استعادة سيادتها، ووقف الغارات العسكرية الإسرائيلية خصوصاً في هضبة الجولان، وتشجيع إعادة الإعمار وعودة اللاجئين بأمان.
ويواجه لبنان تهديدات أمنية مستمرة، بما في ذلك الضربات الإسرائيلية والمخاوف من تجدّد الصراع. وقد أدان البيان هذه الأعمال مؤكداً دعمه لسيادة لبنان ومشدداً على ضرورة تنفيذ قرارات مجلس الأمن واتفاق الطائف. واستقرار لبنان حاسم لمنع تسرّب الصراعات وللحفاظ على التوازن السلمي الإقليمي.
لا تزال الجهود لإدماج سوريا ولبنان في إطار أوسع للسلام والأمن الإقليمي في مراحلها الأولى وبطيئة. وتتم مناقشات أطر التعاون الإقليمية التي تشمل السعودية ومصر وإسرائيل وإيران وتركيا وغيرها من الأطراف الرئيسية، لكنها تواجه عدم ثقة متبادلة عميقة وتبايناً في الأجندات.
الديناميات الأوسع للمنطقة
تميّز العمل السياسي الإقليمي هذا العام بعدم الاستقرار. فطموحات إيران النووية التي ضعفتْ وسائلها، وتراجع قوة "محور المقاومة"، وتداعيات النزاعات المتعددة في لبنان وسوريا والعراق والسودان واليمن عوامل زادت عدم اليقين.
فضلاً عن ذلك، تعقد الجماعات السنية المتطرفة والتحالفات المتغيرة المشهد، في حين تيح توسيع "اتفاقيات أبراهام" وتحولات هادئة بين دول الخليج فرص تعاون محدودة مع إسرائيل على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
ويشكل غياب الولايات المتحدة عن مؤتمر نيويورك ورفضها إطار حل الدولتين تقويضاً للقدرة على التأثير في التزامات إسرائيل، ويحد من دورها كوسيط تاريخي رئيسي، ما يزيد من المخاطر بأن يكون التقدم بطيئاً وغير منتظم أو متوقفاً بفعل السياسات القومية والمخاوف الأمنية.
حركة تكتيكية أم محاولة حقيقية للسلام؟
ينبغي فهم المبادرة الفرنسية-السعودية التي استضافت مؤتمر نيويورك 2025 ضمن هذا الإطار المعقد. فبالرغم من شكوك إسرائيل والولايات المتحدة، والاعتراف بعدم الثقة المتجذرة، تمثل المبادرة أكثر محاولة دبلوماسية متعددة الأطراف تماسكاً وفعالية منذ سنوات لإحياء حل الدولتين، مع أجندة شاملة.
فالمبادرة ليست مجرد تكتيك استعراضي أو خطوة شكلية لتسجيل موقف، بل تتضمن جداول زمنية محددة، ولغة تنفيذية، وبناء توافق دولي غير مسبوق منذ عقود. أيضاً، يشير الحضور الدولي الواسع إلى نفاد صبر المجتمع الدولي من الوضع الراهن ورغبة في تحريك الأمور من الخطاب إلى الأطر التطبيقية.
ماذا يحمل المستقبل؟
بالنظر إلى ما سبق، من المرجَّح أن يتميز المستقبل القريب للشرق الأوسط بـ:
ضعف في الاستقرار الأمني ولجوء متكرر إلى اتفاقات وقف إطلاق النار للتخفيف من العنف وتقديم المساعدات الإنسانية، واحتواء التصعيد
تدرُّج في الجهود الدبلوماسية سعياً لمشاركة دولية في جهود طويلة الأمد للسلام مع حوارات إقليمية متطورة تعترف بالحاجة إلى حلول سياسية شاملة.
استمرار الانقسام بسبب الهوة السياسية العميقة داخل إسرائيل وفلسطين وسوريا ولبنان وبين القوى الإقليمية تعيق الاتفاقات الشاملة.
باختصار، رغم أن السلام الحاسم في الشرق الأوسط لا يزال بعيد المنال في المدى القريب، تشكل مبادرة فرنسا-السعودية لعام 2025 قطعة أساسية في فسيفساء دبلوماسية أكبر. فهي تؤكد التزام المجتمع الدولي المستمر بحل واحد من أقدم النزاعات في العالم عبر إطار عمل قابل للتنفيذ يطالب بالمساءلة والتكامل الإقليمي.
لكن ترجمة هذا الجهد إلى سلام دائم مرهون بتحولات في السياسة الداخلية للدول المعنية، وتعزيز التنسيق الدولي، وبخاصة انخراط الولايات المتحدة مجدّداً، واستعداد الأطراف للتنازل والتخلي عن السلاح والسعي للتعايش، إلى جانب الجهود الإقليمية المتوازية التي تعالج سوريا ولبنان وأمن الشرق الأوسط الأوسع.