في صباحٍ رماديّ الطابع على ضفاف نهر موسكفا، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بالرئيس السوري أحمد الشرع، يوم الأربعاء، في لقاءٍ حمل أكثر من دلالةٍ سياسيةٍ واستراتيجيةٍ في آن. لم يكن المشهد مجرّد حدثٍ بروتوكوليٍّ عابر في سجلّ العلاقات بين البلدين، بل بدا كأنه لحظة مفصلية تعيد رسم ملامح الإقليم، وتفتح الباب أمام توازناتٍ قد تُلقي بظلالها على بيروت، تماماً كما على دمشق وتل أبيب وغيرها من عواصم ومدن الشرق الأوسط.
اللقاء الذي جاء بعد تأجيل القمة العربية في موسكو، بدا في جوهره محاولة روسية لاحتواء التحوّلات المتسارعة في دول المنطقة، خصوصاً بعدما دخلت مرحلة "ما بعد غزة"، حيث تتقاطع خطوط النار مع خطوط التسويات.
بوتن من جهته يسعى إلى تثبيت موقع روسيا كلاعبٍ ضامنٍ لاستقرار الشرق الأوسط، فيما يحرص الشرع على الحصول على دعمٍ صريح لشرعيته السياسية، وعلى تعزيز السيادة السورية في مواجهة النفوذ الإيراني والتهديد الإسرائيلي.
لكنّ الجديد في المعادلة، هذه المرّة، لا يكمن فقط في ما دار خلف الأبواب المغلقة، بل في الرسائل غير المعلنة التي أُريد لها أن تصل إلى بيروت: أنّ دمشق العائدة إلى المشهد الدولي من بوّابة موسكو لن تبقى في عزلةٍ عن جارتها اللبنانية، وأنّ ملفّ "التطبيع الهادئ" مع إسرائيل لن يُقفل من دون مشاركة لبنان في ترتيباتٍ أوسع.
بيروت: إرث الماضي واستحقاقات الحاضر
في موازاة اللقاء الروسي – السوري، جاءت تصريحات الرئيس اللبناني جوزاف عون لتُشكّل، هي الأخرى، خيطاً إضافياً في نسيج التسويات المقبلة. حين قال عون، يوم الاثنين، إنّه "لا بد من التفاوض مع إسرائيل لحلّ المشاكل العالقة"، بدا وكأنّه يعلن بداية حقبة جديدة في الوعي الرسمي اللبناني، قوامها الواقعية السياسية بدل الشعارات المعلّقة على جدران التاريخ.
بيروت، التي عاشت لعقود على إيقاع الخوف من الكلمة المحرّمة: التفاوض، تجد نفسها اليوم أمام استحقاقٍ لا مفرّ منه، بعدما تغيّرت خرائط التحالفات وموازين القوى.
حكمة بكركي
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أكّد أنّ زيارة بابا الفاتيكان لاوون الرابع عشر إلى لبنان، المقرّرة في أواخر الشهر المقبل، تأتي في "زمن السلام" وتحمل للبنانيين رسالة "رجاء".
وأوضح الراعي في مقابلة مع وكالة فرانس برس أنّ البابا "سيحمل في زيارته إلى لبنان السلام والرجاء"، وأنّ العناية الإلهية مهّدت له الطريق "ليصل في أفضل وقت وفي أجمل وقت".
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الزيارة تأتي لتذكّر اللبنانيين بأنّ السعي إلى التهدئة والتوافق، حتى في ظلّ أصعب الظروف، يبقى جزءاً من الثقافة الوطنية والروحية للبلاد، ويُكسب الموقف الرسمي اللبناني بعداً إنسانياً إضافياً في مواجهة التحديات السياسية المعقدة.
دمشق الجديدة ومغزى الذاكرة اللبنانية
قبل ذلك بيومٍ واحدٍ، جاء طلب وزير العدل السوري، مظهر الوَيْس، من بيروت تسليم مسؤولين من النظام السابق، وتأكيده أنّ "العدالة السورية باتت تنطلق من مبادئ دستورية جديدة"، بما يشي بأنّ الشرع يريد طيّ صفحة الماضي عبر مصالحةٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ مع لبنان. لكنّ التجربة اللبنانية الطويلة مع "الوصاية السورية" تجعل من هذا المسار محفوفاً بالحذر، إن لم نقل بالريبة.
قد تكون دمشق الجديدة راغبة في إعادة فتح أبوابها نحو بيروت، لا بصفة الوصيّ، بل بصفة الشريك المتكافئ. إلا أنّ الذاكرة اللبنانية، المثقلة بتجارب الدم والاغتيالات والوصايات، لن تسمح بسهولة بولادة الثقة قبل اختبار الزمن.
رمزية زيارة موسكو
من هنا، اكتسبت زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو أهمية مضاعفة، ولا سيّما أنّ الرجل، وإنْ كان قد مازح الرئيس بوتن لدى مصافحته بالقول: "إنّ الدَرَج في قصر الكرملين طويلٌ جداً والحمد لله أنّني أمارس الرياضة لكي لا أشعر بالتعب"، لكنّه لم يتردّد في الطلب رسمياً خلال المحادثات تسلُّم بشار الأسد من روسيا لمحاكمته في سوريا، وهو مشهد كان يُعَدّ خيالياً قبل أعوام قليلة فقط.
ورغم صعوبة التكهّن باستجابة موسكو لهذا الطلب، فإنّ مباحثات الرئيسين أكدت حرص الجانبين على تثبيت قاعدتَي حميميم وطرطوس ضمن التفاهمات الجديدة، بما من شأنه أن يرسم ملامح مرحلة إعادة تعريف السيادة السورية في ضوء التوازن بين المصالح الروسية والشرعية المحلية الجديدة... والأهمّ من ذلك في تسليح روسيا للجيش السوري الجديد.
إسرائيل: من الأمن إلى الجغرافيا السياسية
أمّا إسرائيل، التي تراقب ما يجري على مقربة من حدودها الشمالية، فهي تقرأ في تصريحات الرئيس اللبناني ومطالبات الشرع السورية فرصةً نادرة لتوسيع نطاق "التطبيع الأمني" نحو تسويات سياسية تعيد ضبط الحدود وتقلّص احتمالات التصعيد.
الاستراتيجية الإسرائيلية في المرحلة الراهنة تقوم على "احتواء التهديد" أو "إلغائه"، أي تثبيت قواعد اشتباك جديدة تتيح لها حماية أمنها مع ترك الباب موارباً أمام تسوية شاملة تُنهي حالة اللاسلم واللاحرب.
نحو شرق أوسط براغماتي
التحوّلات المتزامنة في العواصم الثلاث تُوحي بأنّنا أمام شرق أوسط براغماتي يتلمّس طريقه نحو تسوياتٍ متدرجة، تُراعي مصالح القوى الكبرى وتستجيب في الوقت نفسه لتعب الإرهاق الشعبي المحلّي من الحروب.
لكنّ السؤال الأهم يبقى: هل يمكن لهذه البراغماتية أن تُنتج سلاماً حقيقياً، أم أنّها ستكتفي بتجميد الصراعات في انتظار جولةٍ جديدة من التغيّرات الكبرى؟
حين تتكلّم الجغرافيا بلغة الشعر والسياسة
في النهاية، تبدو بيروت اليوم كقصيدةٍ قديمةٍ تحاول أن تجد وزنها من جديد في ديوانٍ تتبدّل قوافيه. فهي المدينة التي تقف دائماً على عتبةٍ ما: عتبة التاريخ، عتبة الخراب، وعتبة الرجاء.
وكلّما تغيّرت الوجوه في دمشق أو تبدّلت الموازين في تل أبيب، تبقى بيروت - برغم جراحها- نقطة التوازن الحسّاسة في جسد الشرق الأوسط، القلب الذي لا يزال ينبض رغم كلّ شيء.
فهل تكون مصافحة بوتن والشرع بداية فصلٍ جديدٍ تُكتب فيه بيروت كشريكٍ لا كملحق، وكصوتٍ لا كصدى؟