شكلت لحظة انتخاب رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون لحظة تأسيسية. منذ تلك اللحظة انطلق لبنان في مرحلة جديدة من تاريخه. ما ورد في خطاب الرئيس كان أبعد من خطاب قسم. بل خطة عمل مدعومة دولياً وإقليمياً لصورة لبنان الجديد الناهض من الخراب والتعطيل والعنجهيات السياسية التي جعلت منه بلداً آيلاً للسقوط.
اكتمل خطاب القسم الرئاسي بنصفه الآخر الإيجابي الذي ورد في كلمة الرئيس المكلف نواف سلام. رسم الخطابان الخط البياني لتشكيل الحكومة وبرنامج عملها. تلك الحكومة يفترض أن يأتي تشكيلها انسيابياً من دون عقبات مبنية على المحاصصة وتوزيع المغانم على الأحزاب والكتل النيابية. غير ان الوقائع تسابق الأمنيات. فما شهدته المشاورات النيابية غير الملزمة ومقاطعة الثنائي تنذر بخطر يهدّد التشكيل الذي يريد البعض هندسته طبقاً لما درجت عليه العادة من توزيع الحصص بين الأحزاب والقوى السياسية، والخلاف حول ما درج العرف على تسميته "وزارة سيادية" وأخرى غير سيادية.
لم تكن مقاطعة الثنائي للاستشارات النيابية إشارة مطمئنة لسير تشكيل الحكومة. بعد تصويته لصالح الرئيس عون ظنّ الثنائي أن الأمور سلكت المسار التوافقي لكنه فوجئ بالانقلاب على الاتفاق معه، على حدّ قوله، إذ التقت الغالبية على تسمية الرئيس نواف سلام. وعلى سبيل الاعتراض قاطع الثنائي الاستشارات لتكون تلك أولى عقبات التشكيل. في ذهن الثنائي أنّ الانقلاب على الاتفاق في تسمية الرئيس المكلف يعني الانقلاب على ما تبقى من بنود هذا الاتفاق الذي قال إنه عقده مع السعودية والأميركيين والفرنسيين. وهو اتفاق ينص من جملة ما ينص عليه، على تسمية ميقاتي رئيساً للحكومة واقتصار التمثيل الشيعي في الحكومة على الثنائي الذي اشترط أن يكون شريكاً في التعيينات الإدراية المقبلة.
ثمة وجهة نظر تقول إن الانقلاب على تسمية ميقاتي جاء في أعقاب زيارته سوريا واجتماعه مع أحمد الشرع، وهو ما لم يلقَ ترحيباً من المملكة والأميركيين. وجهة نظر أخرى تقول إنّ السعودية لم تؤكد عودة ميقاتي ولم تقطع وعداً بعودته، وأنّ سوء فهم أحاط بهذه النقطة على وجه التحديد.
لكن وبغضّ النظر عن الوجهتين فما حصل كان رسالة للثنائي بأن زمناً مختلفاً يلقي بظلاله على البلد، ومعه سيكون التعاطي مختلفاً عن كل ترسّبات المرحلة السابقة. فهم رئيس مجلس النواب الرسالة وردّ عليها بمقاطعة الاستشارات ولو استدرك القول لاحقاً "كل شي بالبلد راح يمشي". كلام مقتضب يعني ضمنا أن الثنائي بات يدرك اللعبة جيداً وأن الخطوات المرسومة ستنفذ بغض النظر عمّن أراد الانخراط في العملية التغييرية أو تمرد عليها. وأن المقاطعة سترتد على المقاطعين حكماً لأن البديل حاضر على قاعدة ان اعترضت فعليك بالانتقال الى صف المعارضة فهل ان الثنائي في وارد هذه النقلة اليوم؟ ليس مؤكدا. ذلك ان مقاطعة الاستشارات لم تلغ المراسيل خلف الكواليس بين برّي والرئيس المكلّف، والتي شارك فيها رئيس الجمهورية لاعبا أساسياً بقصد ازالة الالغام من أمام تشكيل الحكومة لاطلاق عجلة عهده.
ومن خلال كواليس ما شهدته المداولات فإن مقاطعة الثنائي لتشكيل الحكومة مستبعدة، ولكن هذا لا يعني أن التشكيل لن يكون مخاضاً عسيراً بالنظر إلى الكتل النيابية التي تمني النفس بالتمثل بالحكومة فضلا عن النواب المستقلين والتغييريين وألاحزاب السياسية وكلها تعتبر نفسها "أم الصبي" ولها في الحكومة وافر تمثيل. فليس معلوما بعد أيّ حكومة تلك بإمكانها أن تستوعب تمثيل الجميع، وكم سيكون عدد وزرائها. وهو ما يشكل المطب الأول امام التشكيل يليه مباشرة البيان الوزراي الذي سيكون امتدادا لخطاب القسم ما سيعد عامل طمأنة للثنائي يغنيه عن القاعدة الثلاثية جيش شعب ومقاومة. أما النقطة الثالثة أمام الحكومة فهي برنامج عملها وما هو مرتقب منها فعله.
يفترض بالحكومة أن تتعامل مع الوضع في الجنوب لناحية تطبيق القرار 1701 وفقاً للترتيبات الأميركية الفرنسية. ذاك الاتفاق الذي وقع عليه الثنائي ووافقت على مضمونه حكومة نجيب ميقاتي، وسلاح حزب الله ونشر الجيش في كل المناطق وتأمين الانسحاب الإسرائيلي، والبحث عن تمويل إعادة الاعمار، وهذا ليس سهلاً، كما يفترض بالحكومة ترتيب إطار يتعلق بالحدود بين لبنان وسوريا، وجعلها حدوداً آمنة وليست مصدر قلق، وصولاً إلى سحب كل العناصر الخلافية حول الحدود بدءً من مزارع شبعا. ويندرج ضمن أولوياتها تنفيذ المطلوب منها من البنك الدولي وصندوق النقد وأن تتقدم من مجلس النواب بكل المشاريع الاصلاحية، وأن يلبي المجلس ويتعاون على اقرارها لكي يبدأ لبنان مرحلة الدخول إلى التعافي المالي، من خلال إعادة هيكلة المصارف وتوزيع الخسائر والديون وكذلك الأمر في ما يتصل بإعادة رسم علاقات طبيعية مع دول الخليج العربي، وحل أزمة النازحين السوريين ووضع برنامج لإعادتهم ضمن جدول زمني، وتنفيذ ما ورد في التدقيق الجنائي من فجوة مالية وودائع مالية واقتراحات الحلول والتعويض على المودعين باعادة جزء من ودائعهم، واستئناف مسألة استخراج الغاز الذي توقف لأسباب سياسية. هذه الأولويات والكثير غيرها وردت في خطاب القسم، فضلاً عن الأولويات التي تحدث عنها الرئيس المكلف فتعهد بتطبيق اللامركيزية الادارية التزاماً بما ورد في اتفاق الطائف. ما يعني أن خريطة الأولويات للرئيسين مرسومة من خلال خطاب القسم وكلمة الرئيس المكلف. لكن العبرة في التنفيذ وفي ما ستسمح به الكتل النيابية وضمناً الثنائي.
فالاستشارات أظهرات اصراراً من الكتل على تظهير حجم تمثيلها النيابي ودورها في تسمية الرئيس على سبيل التمهيد لحصتها في الحكومة. كتل نيابية أخرى تعتبر أن وزارة الداخلية حقاً مكتسباً لها، وبينها من يرفع شعاراً يقول ما يسري على غيري يجب أن يسري حكماً عليّ، وهذه محصورة أكثر بالكتلتين المسيحيتين للقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر على وجه التحديد.
أكثر من مؤشر يؤكد أن طريق التشكيل مليء بالألغام، وأن عبارات المديح لرئيسي الجمهورية والحكومة سقفه التمثيل الحكومي، فإما كباش متقطع والتعاطي على القطعة أو يطبق قول بري"البلد بدو يمشي"، ومن يتخلف سيكون خارج الملعب. وفي كلا الحالين تتوضح الرؤية حول من يريد مصلحة البلد ومن يريد تعطيلها.