واضح من المواقف المتلاحقة حيال جلسة الانتخاب الرئاسي المقرّرة في 9 كانون الثاني المقبل، أنّه يتجاذبها تياران. الأوّل يدفع في اتجاه أن تكون ناجزة بانتخاب رئيس توافقي لا يشكّل تحديًا لأحد، وقبل 11 يومًا من دخول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 من الشهر نفسه. والثاني يدفع في اتجاه عدم انعقادها إذا لم يضمن أنّها ستنتهي بانتخاب رئيس من كنفه، فيفقدها نصابها القانوني والدستوري. علّ تطييرها يتيح لهذا التيار الإتيان بالرئيس الذي يريد بعد أن تكون إدارة ترامب تولّت مسؤوليتها، وهذا يتمّ عادة في كلّ ربيع جريًا على العادة في كلّ استحقاق رئاسي أميركي.
والواقع أنّ كلّ الأمور كانت ذاهبة 100% إلى جلسة ناجزة، تحت زخم الحراك المحلي والإقليمى والدولي الذي أنتج الاتفاق على وقف إطلاق النار في الجنوب، وأظهر ضرورة وجود رئيس للجمهورية يتولّى معالجة هذا الملف الحساس بالتعاون مع حكومة فاعلة، لأنّه يرتبط بنحو أو آخر بمستقبل الأوضاع في لبنان والمنطقة. تصريح مستشار ترامب للشؤون العربية مسعد بولس غداة تحديد موعد الجلسة الانتخابية بأنّ ملف الرئاسة اللبنانية "شائك"، وأنّ من انتظر الفراغ الرئاسي سنتين في إمكانه الانتظار شهرين أو ثلاثة، وهذا ما دلّ إلى أنّ إدارة ترامب قرّرت، أو نودِيَ عليها من بعض الجهات اللبنانية لتقرّر، إدخال الاستحقاق الرئاسي في نطاق اهتماماتها ومشاريعها المستقبلية للبنان والمنطقة، خصوصًا أنّ البعض يعتبر أنّ موازين القوى الداخلية اللبنانية تغيّرت لمصلحته، نتيجة الحرب التي اعتبر أنّ حزب الله وحلفاءه هُزموا فيها وقد ضعفوا وتقلّص نفوذهم وثأثيرهم، وبالتالي لم يعد في إمكانهم فرض انتخاب رئيس من كنفهم سواء كان رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية أو من يشبهه. وبالتالي، بات هذا البعض يرى أن لا ضرورة للاستعجال في إنجاز هذا الاستحقاق الآن، في انتظار جلاء المشهد في الجنوب وغزة والمنطقة، خصوصًا بعد أن يدخل ترامب إلى البيت الأبيض. وقد جاء انهيار النظام السوري الذي شكّل ضربة لـ "محور المقاومة" ليدفع دعاة تأجيل انتخابات الرئاسة إلى التمسّك بموقفهم، على قاعدة أنّ حلقات "المحور" تنهار الواحدة تلو الأخرى. وبالتالي بات الانتظار، في رأي هؤلاء، مفيدًا على أن يؤول الاستحقاق لاحقًا إلى انتخاب رئيس من كنفهم أو يكون خاضعاً لتأثيرهم.
في حال ذهابه إلى خيار الانسحاب من السباق الرئاسي فإنّ ذلك لن يكون بلا ثمن
لكنّ المفاجأة كانت إعلان فرنجية تمسّكه بترشيحه "حتى جلسة 9 كانون الثاني المقبل"، وذلك بعدما كان راج بعد اجتماعه مع موفدي رئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل وأحمد بعلبكي أنّهما نقلا إليه تمنّيًا بالانسحاب من السباق الرئاسي، لأنّ فرصه بالفوز تقلّصت إلى الحدود القصوى بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وسقوط النظام السوري الذي كانت تربطه به علاقات متينة.
مفاجأة فرنجية هذه أعادت خلطة أوراق الاستحقاق، وطرحت أسئلة كثيرة حول الأبعاد والخلفيات التي ينطوي عليها تمسّكه بترشيحه، مع العلم أنّه اعترف بأنّ فرصه للفوز كانت كبيرة، ولكنها باتت ضئيلة في ضوء ما جرى ويجري في لبنان والمنطقة. وحسب مصادر معنية بالاستحقاق الرئاسي، تبلّغ فرنجية من خليل وبعلبكي دعمًا لاستمراره في ترشيح نفسه وليس العكس، وأنّه أراد من التمسك بهذا الترشيح أن يؤكّد لخصومه، وحتّى لحلفائه، أنّه لا تزال لديه فرص للفوز. وأنّه في حال ذهابه إلى خيار الانسحاب من السباق الرئاسي، فإنّ ذلك لن يكون بلا ثمن، أقلّه أن يكون ناخبًا أساسياً بل شريكًا في تسمية "رئيس يملأ الموقع ولا يملأ الكرسي فقط" حسبما قال، مناديًا بما سمّاه "رفيق حريري مسيحي" بالمعنى السياسي، وهذا ما دلّ إلى أنّه لا يرى في أيّ من المرشحين المطروحين للرئاسة هذه المواصفات. وما يعني أنّه اراد إخراج الاستحقاق الرئاسي وترشيحاته من بازار التسويات التي تأتي عادة برئيس ضعيف، إلى مستوى انتخاب رئيس قادر على أن يخوض التحدّي ويكون حَكَماً بين الجميع ويسير بالجمهورية نحو الإنقاذ، ولا يدير الأزمة بالوقوف عند خاطر هذا الفريق أو ذاك من الفرقاء الذين ساوموه على انتخابه لكي يكون لكل منهم حصة فيه أو "مونة" عليه.
ولكن ما لفت الانتباه في كلام فرنجية دعوته رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع بالذات، دون سواه من المرشحين، إلى النزول إلى جلسة 9 كانون الثاني لانتخاب رئيس إنقاذي، الأمر الذي فسّره البعض بأن لدى فرنجية معطيات متينة عن أنّ جعجع ينوي ترشيح نفسه للرئاسة، ربما بعد انتهاء الجلسة المقرّرة بلا انتخاب رئيس. ويبدو أن فرنجية دعا جعجع إلى الجلسة لتكون بينهما منافسة ديموقراطية، مذكّرًا بأنّهما اعتُبرا مُعبِّرين عن "الوجدان المسيحي" من بين المرشحين الأربعة الذين كانوا اجتمعوا برعاية البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عام 2014 إلى جانب الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون، واتفقوا يومذاك على أنّهم جميعًا "يعبّرون عن الوجدان المسيحي"، وأنّ انتخاب أيّ منهم رئيسًا يكون مقبولًا من الآخرين ويحظى بدعمهم. وذكّر فرنجية أنّه تحفظ آنذاك على هذه الحصرية الرباعية، مؤكّدًا أنّ هناك قيادات وشخصيات مسيحية أخرى تعبّر عن هذا الوجدان المسيحي أيضًا، وذكر من بينها النائبة السابقة نايلة معوض، وأنّه لا يجوز إنكار هذه الشخصيات حقها في الترشح للرئاسة إن أرادت.
وفي أيّ حال، فإنّ كلّ المؤشرات تدلّ إلى أنّ جلسة 9 كانون الثاني تراوح بين احتمالي الفشل والنجاح في موضوع انتخاب رئيس جديد، فلائحة المرشّحين تتسع، ولكنّها لا تحمل أسماء من الأوزان الثقيلة خارج جعجع وفرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، الذي أيّده الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وقال "إن الإدارتين الأميركيتين القديمة والجديدة تؤيدانه".
البعض يقول إنّ جعجع وفرنجية يسقطان في المعيار الذي حدّده بري وميقاتي وجنبلاط في لقائهم الشهير قبل أسابيع، وهو "انتخاب رئيس توافقي لا يشكّل تحديًا لأحد". أمّا قائد الجيش فإنّ التاييد الأميركي له، حسب جنبلاط، ربّما يعرّضه لإحراج، بعد الإحراج الذي أحدثه له إعلان قائد السلطة السورية الجديدة أحمد الشرع من أنّه يؤيّد وصوله إلى الرئاسة اللبنانية إذا اختاره اللبنانيون. علمًا أنّ الرجل يحتاج إلى تعديل دستوري حتّى يتسنّى للمجلس النيابي انتخابه. فإذا توافر تأييد أكثرية 86 صوتًا له يصبح أمر التعديل سهلًا، وإذا لم يتوافر فإنّ الاستحقاق سيذهب إلى خيارات أخرى، وقد تمرّ جلسة 9 كانون الثاني من دون انتخاب رئيس. لكن من الآن إلى موعد الجلسة يبقى باب المفاجآت مفتوحًا على شتى الاحتمالات.