وتيرةُ انبعاثات غازات الدفيئة الكامنة خلف التغيّر المناخي – خصوصاً ثاني أكسيد الكربون – تتعاظم وتستدعي تدارُكاً سريعاً. وقد يكون في طيّات صناعة تكنولوجيا المعلومات مفتاح أحد الحلول. فالصعود المطّرد للذكاء الاصطناعي، مثلاً، في طريقه لاستهلاك 3.5% من إنتاج الكهرباء عالمياً بحلول العام 2030، بحسب شركة "غارتنر" الاستشارية. وهي نسبة، من بين مؤشّرات أخرى، توجّه التركيز صوبَ مراكز البيانات (Data Centers) بما لها من دورٍ حاسمٍ في دفْع الصناعة الرقمية قُدُماً.
البيانات الرقمية، التي تُشغّلها مراكز بيانات عملاقة قوامها خوادم ووسائط تخزين ومئات آلاف شرائح الكمبيوتر المتعطّشة للطاقة، آخذة في التكدُّس. ففي عام 2020، أشارت تقديرات إلى أن عمليات الرقمنة تولّد 4% من الانبعاثات عالمياً. أمّا بحلول عام 2025، فيُتوقَّع أن يتجاوز إنتاج العالَم 180 زيتابايت - والزيتابايت يساوي تريليون غيغابايت - من البيانات الرقمية. ولفهمِ أثرِ تلك البيانات، نأخذ كمثالٍ البيانات المظلمة غير المُنظَّمة في خوادم الشركات وغير المستخدَمة لأغراض تجارية أو المستفاد منها في التحليلات الإحصائية: مليار وثلاثمائة مليون غيغابايت هو مقدار ما تنتجه الشركات منها يومياً، في حين أن مراكز البيانات التي تخزّنها مسؤولة عن 2.5% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مقارَنةً مع 2.1% لصناعة الطيران.
هذه الأرقام وسواها حفّزت بعض الشركات العملاقة على التفكير بأساليب للحدّ من استهلاك مراكز البيانات للطاقة. ووقع أحد الخيارات على تنصيبها تحت الماء. فقد شكّل مشروع "Natick" الذي أطلقته "مايكروسوفت" سنة 2014 – ونُفّذ قبالة سواحل اسكتلندا عام 2018 بإنزال 864 خادماً على عمق 35 متراً تحت الماء – باكورة محاولاتٍ تقييميةٍ لأداء تلك المراكز في الأعماق.
لكن الخطوة العملية الجدّية في هذا السياق، تسخيراً لمقدّرات أعماق البحار والمحيطات، جاءت مؤخّراً من الصين. فمن خلال تعاونٍ حكومي مع شركات تكنولوجيا خاصة، يجري العمل على بناء أوّل مركز بيانات تجاري تحت الماء في العالَم قبالة ساحل مدينة سانيا بمقاطعة هاينان. وبما يُحاكي القدرات الحسابية لحوالى 6 ملايين جهاز كمبيوتر تقليدي، من شأن مركز البيانات ذاك أن يقلب الموازين.
على عمق حوالى 35 متراً، تمّ تصميم الوحدات التخزينية لتَحمُّل ظروف الأعماق القاسية وإدامتها لمدة 25 عاماً. وتزن كل وحدة تخزين مقاوِمة للماء 1300 طنّ وهي قادرة على معالَجة أكثر من 4 ملايين صورة عالية الجودة كل 30 ثانية. كما يُقدَّر أن يوفّر المركز بحدود 122 مليون كيلوواط/ساعة من الكهرباء سنوياً (أو ما يعادِل متوسط استخدام الكهرباء من قِبَل 160 ألف مواطن صيني)، مقارَنةً مع نظير أرضي. ويهدف المشروع إلى تشغيل 100 وحدة بكامل طاقتها بحلول عام 2025، لِتمتدّ الأخيرة على مساحة 68 ألف متر مربّع تقريباً - أي ما يعادِل مساحة نحو 13 ملعب كرة قدم.
أسبابٌ كثيرة تدفع بشركات الرقمنة للجوء إلى الحلّ المائي. أوّلها كونُ حوالى نصف سكان العالم يعيشون على مسافة لا تزيد عن 200 كيلومتر من الشواطئ، وتغطيةُ المياه لقرابة 70% من مساحة الكوكب. وهو ما يجعل نشْر مراكز البيانات تحت الماء، في المناطق الساحلية، أكثر منطقيّة من المرافق الأرضية المتواجدة على مسافات أبعد، وأقلّ تكلفة من حيث انتفاء الحاجة لتخصيص أراضٍ شاسعة لتنصيبها.
ثم هناك الكلفة الباهظة لتبريد مراكز البيانات الأرضية واستهلاكها الكثيف للطاقة. إذ وفقاً للوكالة الدولية للطاقة، تستهلك تلك المراكز ما بين 1% و1.5% من إنتاج الكهرباء عالمياً، يذهب حوالى 40% منها لأغراض التبريد. أمّا تحت الماء، فباستطاعة مراكز البيانات تبديد حرارتها مباشرةً وتوزيعها على البيئة المائية المحيطة بكفاءة عالية. وبالفعل، أظهرت تجارب "مايكروسوفت" احتراراً موضعياً محدوداً في شعاع لا يتجاوز عدّة أمتار وبمقدار بضعة أجزاء من الألف من الدرجة المئوية لا أكثر.
كذلك، يمكن للمراكز تلك الركون إلى مصادر الطاقة المتجدّدة البحرية، مثل مزارع الرياح، أو توليد طاقتها باستخدام تيّارات المحيطات. والحال أن تجربة "مايكروسوفت" توصّلت إلى أن الخوادم المنصَّبة في المركز المائي تتمتّع بقدْرٍ كبيرٍ من الموثوقية، حيث أن معدّل فشلها كان أقلّ بـ20% من تلك الأرضية. ويعود ذلك إلى استقرار درجة الحرارة تحت الماء وتراجُع منسوب تآكل مكوّنات الخوادم كما استحالة اندلاع حرائق فيها.
لكن ثمّة عوائق وتحدّيات عملية عدّة لا تزال تعترض مراكز البيانات المائية. منها ضرورة إرسال فِرق تحت الماء (إلى حين تطوير تقنيّات أتمتة روبوتية مؤاتية) لإنجاز صيانة الأجهزة واستبدال الخوادم ومحرّكات الأقراص. فضلاً عن الحاجة لربط اتصالها - المُكلِف والمعقَّد لوجستياً - بواسطة كابلات بالشبكات الرئيسية. ناهيك بضرورة توفير مصادر طاقة احتياطية ضماناً لاعتماديّتها في حال توقّفت مزارع الرياح عن العمل، وإمكانية تعرُّض المراكز لهجمات إرهابية أو تخريبية بعيداً عن الأعين.
الوكالة الدولية للطاقة تلفت إلى نموّ الطلب على الخدمات الرقمية بسرعة مذهلة. إذ منذ العام 2010، ارتفع عدد مستخدِمي الإنترنت عالمياً بواقع الضعف، في حين توسّعت حركة الشبكة العنكبوتية 25 ضعفاً. وبينما تؤكّد الوكالة على تقدُّم يشهده أداء مراكز البيانات مؤخّراً، إلّا أنّ بذْل مزيد من الجهود من قِبَل الحكومات والشركات الخاصة خلال العقد المقبل - تأميناً لكفاءة استخدام الطاقة وتقليلاً للانبعاثات – يبقى حاجة ماسة.
ففي خضمّ هذه الطفرة الرقمية، تحتاج مراكز البيانات إلى مدّها بجرعات ابتكارية ردْماً للهوّة بين انفجار القدرات التكنولوجية وتراجُع الوعي البيئي. ومن هذا المنظار، يؤمَل من تطويع الكتلة المائية المترامية، تخزيناً ومعالجةً للبيانات، أن يشكّل تمهيداً لمستقبل رقمي أكثر استدامة وأقلّ عبثاً بالمناخ.